رغما عن كل شيء
علاقة بلدنا الأردن مع الولايات المتحدة الأمريكية علاقة متينة تصل الحدود الإستراتيجية في كثير من الأحيان، ولكن الباحثين في شؤون هذه العلاقة يرون أنها علاقة حساسة جدا، ولا تخلو غالبا من إشارات وتلميحات تدل على وجود خلافات وصفها أحد وزراء خارجية أمريكا بأنها خلافات في المستوى التكتيكي وليس الإستراتيجي.
ذلك وصف معقول لتلك العلاقات في سياق طبيعي، ولكن هناك من يقول اليوم إن هذا السياق خرج عن مساره منذ مجيء الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ومن هناك عمت الفوضى في العلاقات الأمريكية الدولية، ولم يعد ممكنا الحكم على تصرفات الرئيس اعتمادا على العلاقات التقليدية أو المستقرة مع جميع الدول، وحتى إسرائيل التي لم تتوقع أن يعترف الرئيس الأمريكي بالقدس عاصمة لها، وينقل سفارته بهذه السرعة، فذلك أيضا سياق غير طبيعي.
لعب الرئيس ترامب على سياسة الأمر الواقع، فهو يقول إن الحكومة والكنيست وكل المؤسسات الإسرائيلية موجودة في القدس، وأنا قررت نقل السفارة، ولا أحد يستطيع أن يمنعني، وهذا أيضا أمر واقع، لا يأخذ في الاعتبار حقوق المسلمين والمسيحيين في القدس.
من هذه الزاوية فإن القمة الإسلامية التي انعقدت في اسطنبول يوم الجمعة الماضي تشكل حدثا مهما، وربما زاوية لتغيرات جذرية في هذه المنطقة وفي العالم، خاصة وأن الأغلبية من الدول المشاركة هي دول تقيم علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، لكن الخلاف هذه المرة لم يعد تكتيكيا، لأن الإدارة الأمريكية أطاحت دفعة واحدة بالحقوق الدينية والعقدية والتاريخية والقانونية والقيم الإنسانية، وسمحت للمشهد الأكثر عنفا ودموية أن يتزامن مع افتتاح السفارة، ومع الذكرى السبعين لاحتلال فلسطين، وصولا إلى خلاصة مفادها أن القدس لن تكون مدينة للسلام، لأن القرار الأمريكي كما وصفه جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين أمام القمة الإسلامية أدى إلى إضعاف ركائز السلام والاستقرار، وتكريس الأحادية، وتعميق اليأس الذي يؤدي إلى العنف.
والآن ماذا يوجد بين يدي العالم الإسلامي من أوراق، وقد سبق له أن تنادى عدة مرات منذ أن أنشأ منظمة له في أعقاب حريق المسجد الأقصى عام 1969، هذه المرة هناك أمر واقع جديد لا يحتمل التسليم، ولكنه يستوجب التغيير، وربما قلب الطاولة رأسا على عقب، وقد تكون إسرائيل في هذه الحالة أكثر تفهما من الرئيس ترامب عندما يتعلق الأمر بالمبالغة في تقييم الواقع العربي، أو في التقليل من القيمة الحقيقية للوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، أو في السيناريو الساذج لعودة أو مجيء المسيح المنتظر على وقع الظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني.
رغما عن كل شيء، يظل الأردن في هذه المعادلة هو الأقرب لحقيقة وطبيعة هذه المعركة إذا جاز التعبير، خاصة وقد بدأ الجميع يدرك ما تمثله الوصاية الهاشمية من معاني تجاوزت المعنى العادي للرعاية وتقديم الخدمات وصون المقدسات من الاعتداءات ومحاولات التهويد، إلى المرتكز الرئيسي في أصل الصراع، أي الفكرة اليهودية الزائفة من ناحية، والمسجد الأقصى الذي يمثل رمز العلاقة بين السماء والأرض التي يجسدها الإسلام، وعروج النبي العربي الهاشمي إلى سدرة المنتهى من ناحية ثانية.
الوصاية الهاشمية، ومعنى وقيمة القدس عند الأردنيين الذين دخلت جيوش صلاح الدين الأيوبي من أرضهم، تعني اليوم نقطة القوة للحقوق الدينية، في مقابل نقطة الضعف في رواية مزورة، وعدوان سافر، وتجاوز خطير على ما تبقى من الشرعية الدولية، وحقوق الإنسان.
الوصاية الهاشمية وموقف جلالة الملك هو مقدمة الركب، وعلى الآخرين أن يقرروا الآن ما إذا كانت خيلهم جاهزة، لما دعاهم إليه من تحرك قوي لدعم صمود الشعب الفلسطيني وتمكينه من نيل حقوقه، وإنهاء الاحتلال والظلم والإحباط، وإشاعة السلام الذي يحتاجه الجميع وعلى قدم المساواة، وبلا استثناء.