دروس قضائيّة مُستفادة
ينتابني شعورٌ عندما أتمعّن في الأحكام القضائيّة لبعض الدول بأنّ المبدأ القانونيّ كالإنسان ينمو ويترعرع حتى يشتد لكنه يبقى في شبابه دون أن يمرض أو يهرم.
تُدخل بعض الأحكام القضائيّة السّرور إلى قلوبنا حينما نتمعّن فلسفتها وتجسيدها العميق للمفاهيم البشريّة السّامية والبحث الدؤوب عن صون حقوق الأفراد وحرّياتهم، فنشعر بأنّ القاضي مُصدر الحُكم ينطبق عليه ما قاله أحد الفقهاء الفرنسيّين 'بأنّ مهمة القاضي أن يُناور بين النّصوص القانونيّة القديمة والحديثة والمبادئ القانونيّة ليجد حلاً عادلاً ومُنصفاً للقضية المُثارة أمامه'.
تجد هذه الأقوال مثالها الأول في القرار الذي صدر مؤخّراً عن مجلس الشّورى اللبنانيّ، والذي يُعتبر جهة القضاء الإدرايّ في الجمهورية اللبنانيّة، حيث قضى المجلس بإلغاء قرارين إداريّين صدرا عن إحدى الجامعات تضمّنا حظر تسجيل الطلبة في أكثر من إختصاصٍ في العام الدراسيّ ذاته، وإستند المجلس في قراره أنّ هذان القراران يخالفان المبادئ الدستوريّة والأحكام العامّة للتّعليم العالي ويقيّدان حرّية التّعليم والتّحصيل العلميّ.
ويأتي المثال الآخر في القرار الصّادر عن إحدى المحاكم السويديّة، والذي ألزمت المحكمة بموجبه إحدى الشّركات بأداء مبلغ أربعة آلاف دينارٍ كتعويضٍ لفتاةٍ حرمت من فرصة العمل في إحدى الشّركات لرفضها المُصافحة باليد، مُعللّةً القرار بأنّ تلك الفتاة قد تعرّضت للتّمييز غير المُباشر بسبب مُعتقدها الدينيّ.
أمّا التّوجه القضائيّ الأخير الذي يجب أن يدفعنا بإستمرار نحو إعادة قراءة النّصوص القانونيّة سواءً الدستوريّة منها أو التشريعيّة بمفهومها الضيّق بصورةٍ تتواءم مع تطوّر الفكر الإنسانيّ والإحتياجات البشريّة، فهو عدم إستسلام وتسليم مجلس الدولة الفرنسيّ لتحديد الفقه والقضاء العالميان عناصر النّظام العام وضم الكرامة الإنسانيّة بمدلولاتها العميقة كإحدى هذه العناصر.
هذه التّوجهات القضائيّة العالميّة ينبغي أن تحثنا كباحثين وأساتذة وعاملين في قطاع العدالة نحو السّعي المُستمر للنّهوض بالمنظومة التشريعيّة الوطنيّة وتأويل النّصوص القانونيّة ببُعد ثقافيّ وعلميّ يُحاكي مُنطلقات العدالة والتّجديد، فالواقع أصبح مُتغيّراً ويتطلّب من القانون أن يُواكبه بإستمرار ليّحقق التّشريع غايته المُتمثلة بتحقيق العدالة وإستقرار المُجتمع وتفعيل الحقوق وتمكين الأفراد من مُمارستها وبيان الواجبات، كما ويُشكّل هذا بمجمله ضرورةً لازمةً لإستمرار الطبيعة الديمقراطيّة للأنظمة السياسيّة.