أولويات الأردنيين
بعد احتجاجات نيسان من العام 1989 انخرط الأردن في عملية إصلاح سياسي واسعة وعميقة على أمل الخروج من أزمته الاقتصادية، لكنه بعد ست سنوات فقط اصطدم بالأزمة مرة ثانية، واندلعت الاحتجاجات من جديد بعد قرارات حكومية برفع الدعم عن الخبز وسلع أساسية.
العقد الأول من الألفية الجديدة انقضى في إدارة الأزمات الإقليمية "الانتفاضة الثانية واحتلال العراق، وعالم ما بعد 11 سبتمبر"، وما ترتب على هذه الأزمات من تحديات اقتصادية وسياسية، وخيارات صعبة صاحبها ارتباك شديد في تحديد الأولويات، لكن وبالرغم من ذلك لم يسجل التوتر الداخلي معدلات مقلقة؛ نسب النمو الاقتصادي بدت معقولة، والمديونية في حدود الاحتمال.
مع موجة الربيع العربي في النصف الأول من العقد الثاني، وجدنا أنفسنا أمام لحظة شبيهة بلحظة الـ89 فكان لا بد من وجبة إصلاحات سياسية أكثر عمقا لاحتواء تداعيات ثورات الربيع العربي أردنيا، تمثلت بتعديلات جوهرية على الدستور والقوانين الناظمة للحياة الحزبية والبرلمانية. لكن بعد ست سنوات أيضا وجدنا أنفسنا أمام نفس المأزق؛ اقتصاد مثقل بالمديونية والعجز عن خلق فرص عمل كافية، ومعدلات بطالة مرتفعة، فاقمتها فوضى الإقليم وإغلاق الحدود الأردنية مع سورية والعراق، ومواجهة مفتوحة مع الجماعات الإرهابية.
في المرحلتين "89 و2012" فشلت محاولة الهروب من الأزمة الاقتصادية بحلول سياسية وإصلاحية. ترفض النخب السياسية الإقرار بهذه النتيجة، بخلاف التيار العريض من الأردنيين الذي تنبه لهذه الحقيقة مبكرا، وفق نتائج استطلاعات الرأي العام المتوالية في السنوات الأخيرة.
في أحدث استطلاع رأي أجرته شركة "أبسوس" العالمية، كان هناك سؤال حول أكبر ثلاثة هموم بالنسبة للمواطنين فجاءت الإجابات بأنها البطالة والتكلفة العالية للمعيشة ثم الفقر.
لماذا لا يدرك الناس قول السياسيين المتكرر عن الارتباط الوثيق بين الإصلاح السياسي وتحسن المستوى الاقتصادي والمعيشي؟
سببان في اعتقادي، الأول، أن خطوات الإصلاح السياسي التي شهدها الأردن بعد انتخابات 89 لم تنعكس على مستوى معيشة الناس، مثلما هو الحال مع الإصلاحات الدستورية والسياسية التي أقدمنا عليها قبل سنوات.
والثاني أن تجربة الدول العربية التي شهدت ثورات شعبية أطاحت بأنظمة مثل تونس وليبيا واليمن، أو إصلاحات سياسية جذرية أفرزت حكومات منتخبة تقودها المعارضة كالمغرب مثلا، لم تفلح كلها في تحقيق أي نتيجة تذكر على المستوى الاقتصادي. تونس والمغرب على اختلاف النموذجين انخرطتا في تفاهمات برامجية مع صندوق النقد الدولي، وتبنتا خططا اقتصادية قاسية أدت إلى موجات احتجاج شعبي واسعة.
الإصلاح السياسي لا يضر لكنه لا ينفع كثيرا.
لم تقدم دولة عربية بعد نموذجا للإصلاح السياسي مقرونا بتحسن في الأوضاع الاقتصادية. اليوم وعلى نطاق واسع يقول محللون إن الهموم الاقتصادية قد تكون محركا لموجة جديدة من الثورات الشعبية حتى في البلدان التي شهدت ثورات قبل سنوات قليلة.
المسألة الجوهرية في اعتقاد أصحاب خبرة هي في السياسات وليس السياسة. أكبر المخاطر التي تواجه الدول اليوم هو فساد السياسات، والمتمثل في عجزها من تلبية مصالح الناس وأولوياتهم، وافتقارها للإدارة السليمة والتخطيط الصحيح، وغياب الرقابة في التنفيذ، وإلا ما الذي يجعل دولة كبرى مثل الصين محكومة بنظام الحزب الواحد بلا حريات أو حقوق سياسية تحقق تقدما اقتصاديا، يصعب على الاقتصاد العالمي كله أن يجاريه؟!