التّغميس خارج الأطباق كلّها !
من يثرثرون عن الاسباب التربوية للعنف والنزوع نحو التطرف يصدُق عليهم ما قاله المثل عن التغميس خارج الطبق، سواء كان طبقا من ورق او خزف، لأنهم يتحدثون بشكل مجرد فيما الامثلة المحسوسة والمرئية والمسموعة امامهم ومن حولهم، ولو شئت ان اذكر حادثتين فقط وهما غيض من فيض، فان الاولى عن امرأة شاهدتها بنفسي في قاع المدينة وهي تضرب ابنها الصغير بعنف لأنه طلب منها ان تشتري له قطعة حلوى من بائع على الرصيف وقد تحوّل الاناء الذي وضعت فيه الى مطار للذباب مما يذكّرنا بمن قالوا ان الاحذية في واجهات المحلات في العالم العربي يغطيها الزجاج ويحجب عنها الغبار اما الاطعمة فهي مكشوفة في العراء، وتلك حكاية اخرى، سمعت المرأة تهمس في اذن طفلها بعد ان اصبح وجهه مزيجا من عدة سوائل سالت من عينيه وانفه وفمه، سأشتري لك، لكن لا تقل لاخوتك، وتخيلت على الفور هذا الطفل وقد اصبح زعيما او حتى مديرا فما الذي سيمارسه في مجمل ادارته وعلاقاته؟
الاجابة متروكة لخيال القارىء وهو غزير فيما يتعلق بهده الكوميديا الصفراء لا السوداء.
والحادثة الثانية في سيارة اجرة حيث كان سائقها يصطحب معه ابن اخته الذي لا يتجاوز عمره العشر سنوات، وقد دار بينهما الحوار التالي، قال الخال لابن اخته اذا اتصل بكم عمكم فلان فقولوا له انني ذهبت عدة مرات الى المكان الذي يعمل فيه ولم اجده ثم اضاف، يا خالي بدك تبوس الكلب من فمه حتى تاخذ حاجتك منه، وظل الصبّي صامتا غير ان ابتسامة صفراء لا تليق بالطفولة ارتسمت على وجهه.
في حكاية واحدة تتلخص التربويات المجيدة بدءا من تعليم الكذب مرورا بهجاء ذوي القربى وليس انتهاء بنظرية الكلب الذي لا يمنع لعابه حتى لو كان مسعورا صاحب الحاجة الارعن من تقبيل فمه ! وحين يقول اب لإبنه اذا دق جرس الباب ان يخبر السائل بأن اباه خارج البيت فهذا اول درس في فقه الكذب، ولو احصينا خلال يوم واحد ما يتلقاه الاطفال من هذه الدروس لملأت مجلدات.
ان الباحثين في علم النفس عندما تناولوا الاستبداد وجنون السلطة لدى افراد حكموا البلاد والعباد عادوا الى صباهم والى الحليب الذي رضعوه والذي لم يكن صافيا على الاطلاق . فمن قبّلته امه وربتت على كتفيه لأنه سرق قلم او ممحاة زميله ما الذي ينتظره منه غير سرقة بنك او وزارة او حتى دولة!
اننا نعاتب ابناءنا اذا صدقوا، لهذا يدافعون عن انفسهم بهذا السلاح الذي هو الكذب وحين توجد مجتمعات تكافىء الكاذب وتعاقب الصادق فإن الحصيلة هي هذا الفساد متعدد الرؤوس الذي لا يقطع له دابر!
رجاء ... كفّوا عن تهريب الواقع الى عالم من التجريد والتغميس خارج الاطباق كلها، ففاقد الشيء لا يعطيه ومن ينتظر الشهد من البعوض او الذباب عليه ان يضع ملعقة سكر في فمه وينام!