وهم الدولتين والعبث بالقدر الفلسطيني..!
يوم الخميس، قال الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن "ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية من تنفيذ لخططها في التوسع الاستيطاني سيقضي على ما تبقى من أمل لحل الدولتين على حدود 1967". ويعبر هذا التصريح عن تجاهل مطلق للوقائع على الأرض، وتشبث عنيد بالوهم. وكان الأجدر بعباس أن يجرؤ على إحداث التغيير النحوي والدلالي في عبارته، فيقول أن ما قامت وتقوم به حكومة الاحتلال "قضى فعلياً ومنذ زمن طويل على حل الدولتين على حدود 1967". لكن مثل هذا الاعتراف المستحق منذ زمن، كان سيعني اقتراح نهج فلسطيني مختلف ربما يتضمن تنحي القيادة، وهو ما لا تبدو القيادة الفلسطينية مستعدة لتحمله لأجل قضية شعبها.
يرتكز وجود الرئيس عباس في الجمعية العامة ليتحدث بصفته ممثلاً رسمياً للفلسطينيين، على اتفاقية أوسلو أو "إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي". وتعني كلمة "انتقالي" في عنوان الاتفاق ونصه إقامة سلطة حكم ذاتي انتقالي فلسطينية (ما أصبح "السلطة الوطنية الفلسطينية") لفترة انتقالية لا تتجاوز خمس سنوات، للوصول إلى تسوية دائمة بناء على قراري الأمم المتحدة 242 و338. ويؤكد هذان القراران على انسحاب كيان الاحتلال من الأراضي التي احتلت في العام 1967. وقد جاء العام 1998، المحدد لانتهاء الفترة الانتقالية، ومر بعده 18 عاماً، ولم يتحقق أساس اتفاق أوسلو القائم على "حل الدولتين". فماذا ينتظر الرئيس الفلسطيني ليقتنع بأن المشروع فشل؟ ولماذا لا يلاحظ الكلفة التي دفعها ويدفعها الفلسطينيون في هذه الفترة من التسويف واللعب مع الوهم؟
كان "حل الدولتين" من الأساس اقتراحاً إشكالياً بالنسبة للفلسطينيين والمعلقين الدوليين. وقد اعتبره البعض مشروعاً ميتاً قبل أن يولد، بينما أعلن آخرون وفاته منذ وقت طويل بعد الفشل الواضح والمتكرر في تطبيقه. وفي الأساس، قامت فكرة هذا الحل على إقامة دويلة فلسطينية على أراضي ما قبل العام 1967، أي كامل الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، التي تساوي في مجموعها 22 % من فلسطين التاريخية. وتعني "الدولة الفلسطينية" بهذه المواصفات، التنازل قانونياً عن معظم وطن الفلسطينيين والاعتراف بأحقية الاستعمار الصهيوني فيه، والقطع النهائي لصلة أصحاب 78 % من فلسطين بوطنهم وإلغاء حقهم في العودة إليه نهائياً وإلى الأبد. وكان من الواضح أن هذا ليس حلاً، على افتراض أنه سيحقق شيئاً لجزء صغير من الفلسطينيين ويؤبد مشكلة الأغلبية. وبالإضافة إلى ذلك، عملت مخططات العدو، باستغلال فسحة أوسلو وتعاون السلطة الفلسطينية، على تقطيع أوصال الـ22 % وزرعها بالمستوطنات وإعدام فرصها في التطور وتهيئة الأرضية لقيام دويلة ربما تكون قابلة للحياة.
حتى مع ذلك، رأت طائفة من الفلسطينيين أنّ "حل الدولتين" بمواصفات أوسلو هو الخيار الوحيد المتاح، والذي ربما يمكن اعتباره "مرحلياً" أو "تكتيكياً" لعل الأمور تتغير في قادم الأيام. لكن الخبرة والأيام كشفت بكل وضوح عن خسائر فادحة تنتجها يومياً هذه "المرحلة" أو "التكتيك". وكان أبرز تجليات مرحلة "المفاوضات" التي تجاوزت برنامجها الزمني بإفراط هائل، هي تحويل الفلسطينيين من أصحاب حق إلى متسولين؛ وإلقاء منجزات المقاومة التي تحققت بدم الشهداء قبل ذلك في القمامة؛ وقسمة الصف الفلسطيني إلى فئات متصارعة على الوهم وبلا برنامج؛ ونقل الخطاب المحلي والعربي والعالمي من الحديث عن مشكلة شعب فلسطيني مهجّر من وطنه المحتل بالكامل إلى مشكلة الضفة وغزة فقط ونسيان قضية أصحاب معظم فلسطين.
إذا كان يمكن الحديث عن أي "مكاسب" فلسطينية في مرحلة أوسلو و"الدولتين"، فهي تلك المصالح التي تحققت لفئة استفادت مادياً بوضوح، وذاقت طعم امتلاك السلطة –ولو على مواطنيها المقهورين وفي خدمة السيد المحتل ورعاته. ومن المعروف أن المبرر الوحيد لوجود السلطة الفلسطينية، بامتيازاتها الفئوية الخاصة، هو أنها تؤدي وظيفة التفاوض. وبالتالي، سيعني اعترافها بفشل مشروع أوسلو و"الدولتين" أن تفقد مبرر وجودها، وهو ما لا يريده كيانها بكل وضوح. وفي الوضع الطبيعي والأخلاقي، سيقول لك أي صاحب اقتراح أن تعطيه فرصة ليجرب، ثم يعتذر ويتنحى إذا ظهرت خسائر مشروعه وتجاوز جدوله الزمني كثيراً وبفشل فظيع. أما القول، بعد كل ما جرى، بأن الاستيطان "سيقضي" على حل الدولتين، فتعلق بالوهم وعبث رديء بالقدر الفلسطيني.