حكومة الملقي الثانية
بانتظار تدشين عهد الحكومة الجديد والثانية للدكتور هاني الملقي، فمن المهم إعادة النظر في ترسيم أجندتها وأولوياتها المقبلة، فالحكومة تنظر إلى المسألة المالية بوصفها أولوية قصوى، وتحمل معها إلى مجلس النواب القادم ملفاً بتطبيق سياسات جديدة مع صندوق النقد الدولي، ما يتطلب مطبخاً اقتصادياً محترفاً. لكن في المقابل هنالك أولويات سياسية وثقافية وإعلامية من الضروري أن تأخذ نصيباً وافراً من اهتمام الحكومة وأولوياتها، وقبل ذلك في بناء "مطابخ" للتعامل معها.
تداعيات جريمة اغتيال ناهض حتر كانت منعطفاً مهماً، وكشفت عن حجم الانقسام الثقافي والهشاشة المجتمعية، ولا يخرج السجال حامي الوطيس حول المناهج التعليمية في المدارس، وتبادل الاتهامات بالتخوين والتكفير والتنازل من جهة، وبالرجعية والتخلف والظلامية من جهة أخرى عن هذا المناخ العام المقلق.
هنا، يقع السؤال المهم والأساسي: ماذا يمكن أن تعمل الحكومة لمواجهة هذه النزعات المتنامية ولترميم التوافقات الوطنية والمجتمعية، بل وإعادة صياغتها ضمن رؤية تقودها الدولة نحو المستقبل؟
الجواب على هذا السؤال يرتبط بمقدمات واعتبارات متعددة، على رأسها الاعتراف بحاجتنا اليوم لرسالة واضحة عميقة من قبل الدولة إلى المجتمع تتضمن؛ أين تقف الدولة؛ هل نحن دولة تسعى إلى المدنية والديمقراطية وتجذير قيم المواطنة والتسامح والتنوير؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن الوصول إلى هذه الحالة عبر جهود مؤسساتية وحركة انسيابية؟
ما هو المطلوب في موضوع التربية والتعليم والجامعات والخطاب الديني والخطابات الأخرى؛ ما هي الرسالة التي من الضروري أن تصل إلى الأطراف الأخرى المحتربة حول هوية الدولة في هذا الموضوع؟
قد يقول البعض إنّ هذه القضايا لا تدخل في صميم مهمات الدولة، أو أنّنا لسنا دولة أيديولوجية أو مذهبية أو عقائدية حتى نفرض توجهاً محدداً على المجتمع، وهذا بالطبع احتراز وجيه ومعتبر، وليس مطلوباً بالضرورة أن نفرض شيئاً على الناس، لكن المطلوب أن تضع الدولة محددات وقواعد للحوار الوطني أولاً، وتحاول بناء تفاهمات وتوافقات وطنية على قيم ومفاهيم تمس التربية والتعليم والوعظ الديني والحريات العامة والخاصة والسلم الأهلي والمجتمعي، فهذه الملفات ليست أموراً ثانوية أو بعيدة عن الحياة العامة واليومية، بل أصبحت في ظل ما نشاهده من نمو الهويات الفرعية والانقسامات المجتمعية والمذهبية والثقافية العربية المحيطة تمس الأمن الوطني بصورة جوهرية وكبيرة.
صحيح أنّ هنالك اهتماماً متأخراً بدأ بالقضايا الثقافية والمجتمعية، وتم وضع خطة لمكافحة التطرف (لا تزال غير فاعلة ولا مرئية آثارها)، وإعادة تدشين وزارة الشباب، لكن إلى الآن ما تزال "أجندة الدولة" ورؤيتها ملتبسة ومرتبكة، وغير واضحة، تسير خطوة في هذا الاتجاه وخطوة أخرى في اتجاه آخر، ما خلق حالة من الضبابية والغموض، وعزز من الصراعات المحتدمة.
الخشية أنّ الدولة إلى الآن حائرة لا تعرف ماذا تفعل أمام هذه الكرة المتدحرجة؟ والأكثر خشية أنّ "مطابخ القرار" هي نفسها لا تعرف أين تقف؟ وماذا تريد؟..
لذلك أقول إنّ حماية السلم الأهلي وبناء رسالة الدولة السياسية والثقافية بمثابة أولوية قصوى في المرحلة القادمة.