البيئة الفكرية للكراهية والعنف
كما أن التفسير السوسيولوجي للكراهية والتطرف ليس مشغولا بالعلاقة المباشرة بين المتطرفين وظروفهم الاجتماعية والاقتصادية، ولكن بالعلاقة بين البيئة الاجتماعية والاقتصادية وبين التطرف والكراهية، فإن الحديث عن العلاقة بين الأفكار والمعتقدات والنصوص الدينية والتعليمية وبين الكراهية والتطرف، ليس مشغولا بالأوامر والنواهي والدعوات والفتاوى لأجل الاعتدال أو التطرف، الكراهية أو المحبة، التعصب أو التقبل... بل تتشكل منظومة الاعتدال أو التطرف والكراهية في البيئة الفكرية والتعليمية والثقافية على نحو أقرب إلى المنهج الخفي. والحال أن مواجهة التطرف والكراهية لن تكون عمليات مباشرة لإحلال أفكار أو نصوص محل أخرى، ولكنها في "النسبية وعدم اليقين" التي تشكل العقل الحرّ والناقد والمتقبل للآراء والأفكار والمستعد للتغيير والمراجعة. لذلك، فإن أفضل النصوص والأفكار التنويرية إذا قدمت على أساس من الوصاية واحتكار الصواب والتعصب، فإنها ستنشئ أيضا الكراهية والتطرف. فلا فائدة أو أهمية لأن تُفرض أجمل الأفكار والمعاني على الناس فرضا، أو تُلقن للتلاميذ بوصاية على عقولهم وضمائرهم وأرواحهم؛ الاعتدال -ببساطة- هو محصلة للحريات والإبداع.
يمكن للتوضيح تقديم أمثلة كيف تتشكل الكراهية (ويتبعها التحريض والتعصب والعنف بطبيعة الحال) في الأفكار والثقافة والمناهج: الامتلاء بالشعور بالصواب والحق، وأن الآخر مخطئ وباطل، وعدم القدرة على إدراك وملاحظة معقولية/ احتمال معقولية الآخر، وخطأ/ احتمال خطأ الذات. إذ ليس المطلوب أن يقدم الصواب والاعتدال للناس على أنهما كذلك، ولكن في ظل الاعتقاد بأن أحدا لا يحتكر الصواب ولا يعرفه على وجه اليقين. وبذلك، تظل جميع الأفكار والمعتقدات محتملة الصواب، وتظل جميع الأفكار والمعتقدات قابلة للمراجعة واحتمال التغيير، والخلط بين الأفكار والمعتقدات وبين تطبيقها على الآخرين. فأن يعتقد أحد اعتقادا أو فكرة، فهذا أمر يخصه وحده، ولا يحق لأحد أن يُلزم غيره باعتقاد أو يمنعه من اعتقاد، ولا أن يطبق التعاليم والمفاهيم التي يؤمن بها على غيره، لأن الأفكار والمعتقدات ليست هي القانون، ويبقى الحكم بين الناس هو القوانين والتشريعات، وحين تتعارض أو يفهم تعارض بين الأفكار والمعتقدات وبين التشريعات فالحلّ والحكم للمؤسسات التشريعية والسيادية، وليس بيد كل مؤمن بفكرة يرى أنه ملزم بتطبيقها على غيره، وغيره يعني كل من عداه، بمن في ذلك الأبناء والتلاميذ.
وصواب أو خطأ فكرة أو اعتقاد لا يغير شيئا في هوية الناس ولا في الموقف منهم والنظر إليهم؛ فالإنسان مستقل بكيانه واعتباره عن أفكاره ومعتقداته، هو إنسان أولا ومواطن ثانيا، ولا يغير في ذلك شيئا من أفكاره ومعتقداته. الحكم على الناس وتقييمهم وتصنيفهم حسب أفكارهم ومعتقداتهم، ثم بناء المشاعر تجاههم على هذا الأساس، ينشئ بطبيعة الحال حالة من الكراهية للآخر بمن هو المخالف في الفكر والاعتقاد، وينشئ أيضا الشعور بالتميز والاستعلاء والأفضلية.. وببساطة، هذا هو التطرف.
وتنشئ مبادئ الاحتساب "الحسبة" اعتقادا بحق كل صاحب فكرة أن يتحرك لفرضها على الناس أو محاسبة الناس على أساسها، من دون اعتبار لاحتمالات الصواب والخطأ لدى الذات أو لدى الآخر، ومن دون اعتبار لدور المؤسسات والقوانين الناظمة لحياة الناس وعلاقاتهم؛ ماذا عن تعدد الأفكار والمفاهيم واختلافها؟ ففي سعي صاحب كل فكرة لتطبيقها على الآخرين ومحاسبتهم على أساسها، يتحول الفهم الديني والاجتماعي إلى صراع وعنف اجتماعي، يمتد إلى الأسر والزملاء والأصدقاء والجيران والأقارب، وبخاصة مع مفاهيم وأفكار ومقولات من دون تمييز في أهميتها وصحتها ومستواها ومعناها تشجع على الغضب والمفاصلة والكراهية بسبب الاختلاف في الرأي والفكر والمعتقدات.
ويضاف إلى ذلك تقديس التراث والتاريخ والتجارب الحضارية والفقهية بلا تمييز بين الأصول والفروع واحتمال الخطأ، أو من دون تمييز بين الدين والخطاب الديني وبين النصوص وفهمها ومعانيها المتعددة المحتملة.
الأكثر أهمية من تعليم الاعتدال والتنوير، هو تعلم مظنة تعدد الصواب واحتمال الخطأ دائما.