اللامركزية والموازنة
إن الإصلاحات الحقيقية تعكسها موازنات الدول أكثر من أي مؤشرات أخرى سواء سياسية أو إعلامية، ومهما كان حجم تحديات الموارد التي تواجهها المالية العامة؛ فإن هذا لا يعني أبدا تضييع أي فرصة يمكن أن تنعكس في الموازنة ببرامج إصلاحية جادة، بل إن الأزمات المالية قد تكون أحد الاسباب الدافعة نحو اتجاهات إصلاحية تترجم ماليا، وهذا للأسف ما لم يحدث مع مشروع اللامركزية في الموازنة التي عرضت الحكومة قانونها الأسبوع الماضي أمام البرلمان.
من المفترض أن مشروع اللامركزية هو الأهم على أجندة الدولة الأردنية في العام القادم 2017، وهو المشروع الذي بقي يراوح مكانه منذ نحو عقدين، وحان الوقت أن يوضع موضع التنفيذ بعد أن تم اقرار القانون والأنظمة التنفيذية ولم يتبق إلا إجراء الانتخابات وبدء المجالس المحلية عملها، كل هذا التطور يجب أن تتوفر له بيئة ورافعة حقيقية لإنجاحه؛ فالتشريعات والإجراءات الإدارية هي الزيت الذي يحرك الإصلاحات لكن نحتاج إلى ماكنة الإصلاحات قبل ذلك وهي الموارد المالية، وهذا ما لم تعكسه برامج الموازنة.
لقد عكست البرامج المالية الحكومية للعام القادم تراجعا في الإنفاق الرأسمالي المباشر وهذا مبرر في ضوء التحديات المالية ومحددات البنك الدولي، وتراجعا بالتالي في البرامج التنموية الموجهة للمحافظات التي كان من المفترض ان تعكس حزمة من السياسات العامة الموجهة لصالح استيعاب مشروع اللامركزية وضمان انعكاسها في حياة المواطنين، وهذا غير مبرر ولا معنى سياسيا أو اقتصاديا له.
مشروع اللامركزية ليس مجرد نزهة للحكومة المركزية نحو المحافظات، ولا مجرد دعاية للبرلمان لكي يصبح أكثر انشغالا بالسياسة العالمية. اللامركزية تحتاج موارد حقيقية لتمكين الإدارات المحلية من فهم الديمقراطية المحلية، وتحتاج تطوير كفاءات محلية قادرة على إنضاج سياسات عامة كفؤة في كل قطاع، وتحتاج بناء قدرات محلية بفكر جديد يخرج من صندوق عمان.
لا يمكن أن تبقى الدولة تسير طويلا بهذه المنهجية، حيث تتقدم بأفضل الخطط الإصلاحية وبأفضل التشريعات ثم تغيب بدون موازنات تنفيذية، وبدون بناء قدرات، وبدون أنظمة متابعة وتقييم جادة وصارمة، هناك العديد من البرامج الإصلاحية التي فشلت أو أعيق تنفيذها بعدما رفعت الحكومات التوقعات حولها. حدث هذا على سبيل المثال مع الحكومة الالكترونية ومع منظومة النزاهة الوطنية حيث طورنا أفضل وثيقة إصلاحية وتم سن قانون جيد، ولكن هل تعمل منظومة النزاهة بكفاءة ونحن ما نزال نتردد في تطوير خبرات وطنية في هذا المجال ولم نمكّن حتى الهيئة المعنية من مجرد تعبئة ما تحتاجه من شواغر متخصصة.
في نصف القرن الأول من عمر الدولة الأردنية كان وعي النخب الرسمية وشبه الرسمية متقدما عن الممارسات التي سادت في النصف الثاني في مجال الإدارة والحكم المحلي، حيث كانت البلديات تتمتع بصلاحيات أوسع وكانت تمثل بالفعل مؤسسات أهلية منتخبة ذات قيمة تنموية أولا وإدارية وسياسية ثانيا، وبدأت على شكل حكومات محلية لها صلاحيات واسعة، وعكس ما يتخوف البعض كان لها دورها الكبير في توحيد البلاد وتمأسس الدولة على القانون ورقابة مالية صارمة، وما نزال نردد أسماء رؤساء بلديات في الشمال والجنوب والوسط كانت لهم جولات وصولات في حماية المصالح الوطنية.
نحتاج إلى تطوير نموذج أردني يدمج بين الإصلاح السياسي والإصلاح التنموي وفق صيغة تتجاوز مفهوم اللامركزية الإدارية بمضمونها التقليدي، وذلك بالانتقال نحو مفهوم الديمقراطية المحلية، أي الديمقراطية التي تمارسها المجتمعات المحلية على مستوى المحافظات وتدير من خلالها مواردها المحلية بكفاءة وبرقابة محلية وتضمن من خلالها قدرات توزيعية عادلة ومستدامة، وتعيد توزيع أنماط القوة وتعيد إنتاج النخب المحلية بأدوات ديمقراطية معاصرة وتجعل من المشاركة المحلية أساس تحقيق المصالح وتحمل المسؤوليات.
بدون موازنات إصلاحية ستبقى كل برامج الإصلاح مجرد ديكورات وطنية من أجل التسلية وتجميل صورتنا، وبدون موازنات جادة ونظام متابعة ومراقبة وتقييم لمشروع المركزية، سوف يتحول هذا المشروع إلى فصل جديد من فشل المشاريع الإصلاحية حتى يأتي الوقت الذي يكفر فيه الناس بكل فكرة إصلاحية.