ما خفي كان أعظم
تتجاوز تداعيات أحداث الكرك حيّز الأمن والعلاقة بين الدولة وتنظيم "داعش" وأنصاره في الأردن، إلى ما هو أهم من ذلك بكثير –في ظني- ويتمثل في مفهوم العلاقة بين الدولة والمواطن وقيمها!
إذا تجاوزنا مؤشرين إيجابيين ومهمين؛ الأول، هو المزاج الشعبي العام المعادي لـ"داعش"؛ والثاني، "فزعة" المواطنين مع الأمن لمواجهة "الخلية الإرهابية"، فإنّ هناك مؤشرات ودلالات برزت بوضوح غداة الأحداث، من الضروري التفكير فيها جيداً وتحليلها بصورة معمّقة. وفي مقدمة هذه المؤشرات الفجوة الكبيرة بين المواطنين والدولة.
"الأزمة الداخلية" تجلّت في أكثر من مجال؛ بدايةً في "محدودية الثقة" بمؤسسات الدولة. وذلك يعود إلى عاملين رئيسين:
الأول، هو عدم الشعور بوجود قيادات في الحكومة لملء الفراغ، وقيادة الأزمة مباشرةً؛ ليس على الصعيد الأمني، فهو مسؤولية الأجهزة الأمنية بطبيعة الحال، لكن على صعيد السياسة والرأي العام الوطني، والمحلي في مدينة الكرك.
أمّا العامل الثاني، فيتمثل في ارتفاع "سقف توقعات" المواطنين من الدولة، ما يصل إلى صورة غير طبيعية. إذ من الطبيعي أنّ هناك خللاً حدث، وقصوراً في مكان ما (وأظن أنّ هناك عملية تقييم تجري حالياً، لتحديد ذلك). لكن مهما كانت يقظة وقدرة أي جهاز أمني (انظروا إلى ما يحدث في أوروبا)، فلا يمكنه التعامل 100 % مع "نظرية الفعل" الجديدة لدى هذه المجموعات، حتى لو كانوا مراقبين؛ فكيف عندما نتحدث عن تيار يصل أنصاره إلى آلاف، وعن "جيل جديد" أكثر عنفاً وتحايلاً، وعن "قائمة أهداف" واسعة وعريضة؟!
المشكلة أنّ هذا السقف من التوقعات غير المنطقي ساهم فيه الإعلام الرسمي، في الفترة السابقة؛ ودفع بالناس إلى المبالغة في ذلك.
يرتبط بما سبق (في جوانب الأزمة) ضعف مصداقية الرواية الرسمية لدى المواطنين. وهو ما ظهر جلياً في ردود الفعل على المؤتمرين الصحفيين (لوزيري الداخلية والإعلام أولاً، ولوزير الإعلام ثانيا). ومثل هذه المشكلة بالطبع مرتبطة في الأصل بعدم صياغة الرواية الرسمية بصورة محترفة عميقة، بما يحترم المستوى التعليمي والسياسي العالي لدى الشارع الأردني.
لا يتحمّل، برأيي، وزير الدولة لشؤون الإعلام والاتصال د. محمد المومني، وحده المسؤولية عن ضعف الرواية الرسمية، أو تأخرها؛ فالمشكلة قديمة، أصبحت أقرب إلى معضلة، تتمثل في محدودية المعلومات المتاحة للوزير نفسه (وفي أحيان لرئيس الوزراء أيضاً)، والمساحة التي يمكن أن يتحرك فيها، في صوغ الرواية وتقديمها. وما تسرب لاحقاً من الاجتماعات الرسمية يؤكّد أنّ الوزير كان يذهب باتجاه أكثر دقّة في توصيف ما حدث، وكان أكثر إقناعاً وعمقاً، مما خرج به في النهاية.
يتضافر مع العاملين السابقين ارتفاع منسوب السلبية في المزاج الاجتماعي تجاه الدولة، وانعكاس الظروف الاقتصادية على مواقف الناس من الأحداث. فبين سطور ردود الأفعال العديدة على مواقع التواصل الاجتماعي، ظهر بوضوح تأثير البطالة والفقر وارتفاع الأسعار، والأخطر من ذلك كله الشعور بغياب العدالة، والانزعاج من "الفجوة" الكبيرة بين الطبقات الغنية والفقيرة، والأزمة بين المركز (عمّان الغربية -في الخطاب الشعبي هي المركز) والأطراف (المحافظات والقرى). وهو ما يخدم أيضاً تنامي الهويات الفرعية بصورة ملموسة وواضحة!
الموقف الشعبي والاجتماعي العام ضد تنظيم "داعش" ومؤيديه صلب وقوي، ومطمئن. لكن على الطرف الآخر من المشهد، فإنّ الأمور ليست على ما يرام في المعادلة الداخلية، وما ظهر خلال الأحداث وغداتها مقلق. والمشكلة أنّ الأفق المقبل لا يحمل انفراجاً في الأزمة الاقتصادية، فلا بد من الالتفات أكثر إلى إدارة المعادلة الداخلية، قبل أن تتراكم الأمور أكثر!