هل يمكن إصلاح القطاع العام
على الرغم من الدعوات الكثيرة التي أطلقتها جهات عدة، والمطالبات المتكررة لإصلاح القطاع العام، فإن المتتبع لنتائج أداء هذا القطاع ما يزال يشعر أنها دون الحدود المطلوبة المتوقعة، وهو أمر لا يبشر بالخير، إذا استمر الحال على ما هو عليه، مما ينذر بتفاقم حالة طرد الكفاءات الأردنية الى الخارج، وعدم القدرة على اجتذاب الاستثمارات الأجنبية التي يمكن أن يكون لها دور حيوي وفاعل في تنمية الاقتصاد الأردني. ويرجع البعض سبب عدم القدرة على تطوير القطاع العام الى عدم وجود الموارد المالية التي يمكن أن تساعد على تطوير هذا القطاع والنهوض به. غير أن المطلع على واقع مؤسساتنا الحكومية (وزارات ومؤسسات عامة) يستطيع القول إن المشكلة هي مشكلة "إدارة" وليست مشكلة "مال" بالدرجة الأولى. ونظرا لما لهذا الموضوع من أهمية، تتناول الورقة هذه مجموعة من المقترحات، يمكن النظر فيها ودراستها، كوسيلة ممكنة للمساعدة على اصلاح القطاع العام، وقد تضمنت (7) محاور رئيسية مختصرة.
1. القيادات العليا
ما تزال منظومة القيادة الإدارية العليا تعاني من ضعف واضح في مختلف المجالات. فبدءا، إن الآلية المتبعة في عملية تعيين تلك القيادات الإدارية تعتبر غير مقنعة وغير مقبولة. فالإعلان الذي يتم نشره هو الاعلان نفسه الذي ينشر لجميع الوظائف علما ان كل وظيفة تختلف عن الأخرى من حيث المؤهلات والمهارات والكفايات المطلوبة في شاغل كل وظيفة من الوظائف. كما ان اللجنة المشكلة لاختيار القيادات الإدارية العليا لم ولن تكون قادرة على فحص وتحديد ما يملكه كل متقدم من المهارات والكفايات لان الوقت المخصص لمقابلة كل متقدم وقت محدود، إضافة الى أن أمرا كهذا بحاجة الى وجود متخصصين يمتلكون القدرة على إجراء هذه المقابلات والكشف عن المهارات والجدارات المطلوبة، وهو أمر قد لا يمتلكه أعضاء اللجنة الكرام أو بعضهم. كما أن اللجنة تخضع في كثير من الأحيان الى ضغوطات مختلفة من جهات مختلفة، وتحت مبررات ضعيفة، بحيث تضطر الى تعيين من هو غير مؤهل لشغل هذا المنصب او ذاك، بل وفي أحيان كثيرة يتم تعيين أشخاص من خارج قائمة المرشحين لشغل الوظيفة، أو حتى دون الإعلان عن الوظيفة الشاغرة.
ومن أجل تحسين عملية اختيار القيادات الإدارية العليا، يمكن:
أ. أن تتم عملية تعيين القيادات الإدارية العليا وفق أسس علمية موضوعية، ولتحقيق ذلك يجب أن يتم الاستغناء عن الالية المتبعة حاليا والانتقال نحو استخدام أسلوب (مراكز التقييم) الذي يتم من خلاله اختيار القيادات الإدارية بناء على مجموعة من الاختبارات والامتحانات التي تكشف على وجه الدقة المهارات والجدارات التي يمتلكها كل مترشح، ونقاط ضعفه وقوته، وكذلك مدى استحقاقه لتولي الوظيفة المطلوبة. ومثل هذا الأمر يحقق العدالة، ويعفي الجهات الحكومية صاحبة القرار في التعيين من الضغوط والاحراجات.
ب. اختيار القيادات الإدارية العليا من داخل المؤسسة، مما سيكون له الأثر الإيجابي على تحفيز العاملين في المؤسسة، وتمهيد السبيل أمامهم نحو الترقية الوظيفية، علاوة على أن القادم من داخل المؤسسة يكون أكثر دراية بشعابها ونقاط قوتها وضعفها من القادم من خارجها.
ج. إخضاع جميع القيادات الإدارية لبرامج تطوير / تدريب في مجالات الوظائف الإدارية المتعاقبة والمستمرة (تخطيط، تنظيم، رقابة ... الخ) وكذلك لبرنامج متخصص في القيادة الإدارية. ويتم إنهاء عقد مَن كانت نتيجة أدائه في تلك البرامج سلبية.
د. إخضاع جميع القيادات الإدارية بعد تعيينها بستة أشهر الى عملية تقييم أولية للتعرف على ما حققته خلال تلك الفترة وما تنوي تحقيقه في الفترة القادمة، ثم تعاد عملية التقييم مع نهاية الشهور الستة التالية، وقياس الإنجاز المتحقق. وفي حال كانت نتيجة الأداء سلبية يتم إنهاء عقد ذلك الشخص، وليس نقله الى وظيفة أخرى، أو تحويله الى وظيفة مستشار كما يجري حاليا.
ه. تعزيز مفهوم ومنهج الحوكمة في إذهان القيادات الإدارية العليا، الذي يشجع النزاهة والبعد عن الفساد، والافصاح والشفافية والمساءلة، والالتزام الأخلاقي، وغير ذلك من أبعاد هذا النهج
و. إنشاء كلية حكومية متخصصة بإعداد القيادات الإدارية الحكومية الأردنية
2. إدارة الموارد البشرية في القطاع العام
من المعروف أن الموارد البشرية هي عماد تحقيق الأداء العالي والتميز في أي قطاع من القطاعات، ومنها القطاع الحكومي. ورغم ذلك، ما تزال إدارة هذه الموارد في مؤسسات القطاع العام تُعامل على أنها "إدارة موظفين" أو "قوى عاملة" وتعاني من القصور وعدم استغلال هذه الموارد بكفاية وفاعلية. وعلى الرغم من كل الخطط الاستراتيجية والمبادرات التي تم وضعها على مدار سنوات مضت، فإن استطلاعات رضا الموظفين تشير الى مستوى متدن، الأمر الذي ينعكس سلبا على مستوى الأداء. وبهذا الصدد، يجب الالتفات الى الأمور التالية:
أ. مدخلات القطاع العام: تستند تعليمات الاختيار والتعيين في ديوان الخدمة المدنية الى مجموعة من المعايير خُصص لكل معيار منها وزن معين، وقد أعطي الثقل الأكبر لمعيار الأقدمية في التخرج، مما يعني أنه كلما تقادمت سنة التخرج فإن فرصة المترشح في التعيين أصبحت أوفر. إن من شأن هذا الأمر أن يؤدي الى دخول مَن تقادمت علومهم ومعرفتهم ومهاراتهم الى الخدمة في القطاع العام مما يؤثر سلبا في أدائه الوظيفي، مما ينعكس على الأداء العام للمؤسسة الحكومية التي يعمل فيها. ونحن نعلم تماما التغير السريع الحاصل في مختلف مجالات الحياة ومنها على نحو خاص الإدارة، وهو ما يجب ان تستند اليه مؤسسات القطاع العام في عملها. وهنا أقترح أن يتم إلغاء نظام الدور المعمول به الآن في ديوان الخدمة المدنية لما له من سلبيات إحداها تعليم أبنائنا ثقافة الانتظار، والاستعاضة عنه بنظام الامتحانات التنافسية المفتوحة لجميع الخريجين في المنطقة الجغرافية الواحدة، بمعنى ان يتقدم الراغبون في الترشح لوظيفة ما في منطقتهم الجغرافية، وبغض النظر عن سنة التخرج، الى امتحان تنافسي، ويتم نتيجته اختيار الشخص الأكفأ لشغل هذه الوظيفة.
ب. تخطيط الموارد البشرية نوعا وليس كمــّــا فقط: أستطيع القول جازما أن عملية تخطيط الموارد البشرية لخمس سنوات قادمة فأكثر غير معمول بها لدى الغالبية العظمى من مؤسسات القطاع العام، وإنْ وُجِد مثل هذا الأمر فإنه يقتصر على التخطيط الكمي، أي عدد الموظفين الذين ستكون المؤسسة بحاجة إليهم على مدى السنوات القادمة. لكن الأمر اليوم، ومع هذه التغيرات الديناميكية المتسارعة في العالم، ومن أجل إرضاء متلقي الخدمة من مواطنين ومستثمرين، فإن الأمر يتطلب أيضا ممارسة تخطيط الموارد البشرية على مستوى نوعي، أي المهارات والخبرات والكفاءات والمعرفة التي يجب توافرها في الموظف الذي سيعمل في هذه المؤسسة العامة او تلك (سواء أكان موظفا حاليا أو موظفا جديدا) بعد عدد من السنوات القادمة. ويمكن لأي مؤسسة ان تقوم بذلك من خلال استشرافها لمستقبل عملها وتهيئة الكوادر لذلك
ج. المسار الوظيفي للعاملين: تشير الدراسات والبحوث الى ان حالة الموظف الذي يكون على علم ودراية بمساره الوظيفي، وأين سيكون موقعه بعد عدد من السنوات، وبالجهود التي تبذلها مؤسسته من أجل تحقق مساره الوظيفي، إنما هي احدى العوامل المحفزة لأداء الموظف على نحو إيجابي. لكن غالبية مؤسسات القطاع العام لا تلجأ الى تصميم المسارات الوظيفية، بحيث ان الموظف، وبعد انقضاء عشر سنوات على دخوله مؤسسته، لا يزال يعمل دون ان تكون لديه أي معلومة حول مساره الوظيفي مما يؤدي الى تقاعسه في عمله، ومن ثم تدني مستوى أدائه. ومن هنا، يجب على جميع المؤسسات العمل على تصميم المسارات الوظيفية لجميع العاملين فيها وفق الأسس العلمية الصحيحة، ووفق أسس العدالة الوظيفية، وتدريبهم بالشكل الذي يكفل للموظف السير في مساره الوظيفي على نحو سليم.
د. المكافآت والتكليف بالعمل الإضافي: من المتعارف عليه، علميا، أن المكافآت التي يجب أن تصرف إنما يتم صرفها للموظف الذي قام بجهد مميز في عمله، الأمر الذي من شأنه أن يعود بأثر إيجابي على أداء المؤسسة. ويلاحظ لدى مؤسسات القطاع العام، بشكل عام وباستثناءات قليلة جدا، أن صرف المكافآت يتم بعيدا عن الهدف الأساس الذي وضعت المكافآت من أجل تحقيقه، ووفق اعتبارات تقوم على العلاقات الشخصية، بل إن الأمر وصل ببعض المؤسسات الى صرف المكافآت لموظفيها على أساس شهري دائم بغض النظر عن أداء الموظف. إن من شأن هذا الأمر ان يثير الاستياء بين صفوف الموظفين، كما يؤدي الى تقاعسهم عن القيام بالجهود المميزة، وتحقيق الأداء العالي باعتبار ان المكافأة هي تحصيل حاصل لمن يعمل ولمن لا يعمل. ولذلك، يجب إعادة النظر بأسس منح المكافآت داخل المؤسسة الواحدة، وأن يتم صرفها للأداء المتميز وللجهد الاستثنائي المبذول فقط، وهذا من شأنه أن يحفز أداء العاملين. والأمر نفسه ينطبق على التكليف بالعمل الإضافي.
ه. الترقيات للمناصب القيادية الإدارية الوسطى: يلاحظ في مؤسسات القطاع العام عدم وجود أسس وتعليمات واضحة تحدد كيفية اختيار الموظفين لتسلم مناصب (مساعد أمين عام، مدير مديرية، رئيس قسم، رئيس شعبة، وغيرها من هذه المناصب الإدارية). وفي غالبية الأحوال تتم تعبئة هذه الشواغر وفق الأهواء الشخصية، وصلة القرابة والنسب، وحسب ما يقدم الموظف للمسؤول من خدمات. إن وجود هذه المشكلة قد يؤدي الى تفشي الكثير من العادات السيئة لدى الكثير من موظفي القطاع العام مثل تقديم الهدايا وإقامة مآدب العشاء والغداء والتزلف والطعن بالآخرين، من أجل الحصول على رضا المسؤول والوصول الى موقع اداري على حساب موظف آخر يستحق فعلا هذا المنصب ولم يلجأ الى هذه الأساليب الملتوية. ويقتضي الأمر لمعالجة هذه المشكلة، وبالإضافة الى وجود خطوط عريضة عامة خاصة بذلك، وضع تعليمات وآليات لملء الشواغر القيادية الوسطى، قد يكون من ضمنها اجراء اختبارات خاصة من قبل جهة مستقلة.
و. تقييم الأداء: الأساس في تقييم أداء الموظف أن يتم بموضوعية وحسب النتائج التي حققها الموظف. بمعنى وجوب وضع أهداف لكل مديرية، ولكل قسم، ولكل موظف، وهذه الأهداف بمجموعها مشتقة من الأهداف الاستراتيجية العامة للمؤسسة. ويفترض أن تصبح نتائج هذا التقييم إحدى مدخلات عملية تحسين أداء الموظف وتطويره. لكن ما يلاحظ لدى غالبية مؤسسات القطاع العام عدم تحديد الأهداف الفردية لكل موظف والنتائج المتوقع منه تحقيقها، وعدم متابعة ذلك دوريا، بل ان عملية تقييم الموظفين تتم على أساس روتيني شكلي، قائم على الشخصنة، ومدى قدرة الموظف على التقرب لرئيسه وكسب رضاه. وفي هذا المجال، على القيادة العليا في أي مؤسسة من المؤسسات وضع آليات تضمن ضرورة تحديد الأهداف الفردية والنتائج المتوقعة، وأن يتم التقييم على أساسها، والاستفادة من مخرجاتها والأهم من ذلك كله ان يكون التقييم علنيا لا سريا بحيث يتاح للموظف الاطلاع على نتيجة تقييم أدائه، مهما بلغت درجته الوظيفية، ومهما كانت نتيجة تقييمه، وضمان أحقيته في إبداء وجهة نظره.
ز. التدريب والتطوير: تشير الدراسات والبحوث العلمية الحديثة الى أن تدريب الموظفين وتطويرهم أصبح أحد عوامل النجاح الحاسمة لأي مؤسسة من المؤسسات، مما يجعلها ذات أداء عال، يفضي بها الى مرحلة التميز والتنافسية. لكن واقع التدريب في مؤسسات القطاع العام في الأردن تكتنفه إشكاليات عديدة، أهمها خفض المخصصات المالية لبند التدريب في ميزانيات المؤسسات الحكومية، وأن مفهوم التدريب عند بعض المسؤولين يُنظَر إليه على أنه شكل من اشكال الترف الإداري، علما أن الواقع يشير الى غير ذلك، فهو الوسيلة الوحيدة التي تساعد الموظفين على اكتساب المهارات اللازمة للتعامل مع التغيرات الحادة في البيئة العالمية. ومن الإشكاليات الأخرى أنه تم حصر عملية التدريب بمعهد الإدارة العامة الذي هو نفسه بحاجة الى دعم بالمزيد من الإمكانات المالية والفنية لأنه أصبح غير قادر على تلبية المتطلبات التدريبية لكافة الأجهزة الحكومية، بالإضافة الى حظر التعامل مع مراكز التدريب والاستشارات الخاصة، علما ان هناك عددا كبيرا من هذه المراكز تتمتع بخبرة واسعة، ومصداقية عميقة اكتسبتها من خلال عملها في الدول الشقيقة. وهنا، يجب على الجهات المعنية التفكير بضرورة رصد المخصصات اللازمة للتدريب، ورفع الحظر عن مؤسسات التدريب الخاصة، ودعم معهد الإدارة العامة ودعوته الى الانفتاح خارجا للاستفادة من الخبرات المتراكمة المتعطلة. وفي هذا المجال أؤكد ان تحديد الاحتياجات التدريبية يجب ان يكون أحد مدخلات عملية تقييم الأداء، وان يتم ترشيح المتدربين وفق هذه الأسس لا وفق أسس شخصية.
ح. الرفاه الوظيفي: المفهوم الخاطئ للرفاه الاجتماعي السائد لدى القياديين الإداريين على جميع المستويات في القطاع العام أن ما يتقاضاه الموظفون من مكافآت وأجور عمل إضافي وتأمين صحي هو رفاه اجتماعي. والصحيح أن تلك هي حقوق للموظف. وبهدف تحفيز الموظفين على تحقيق الأداء العالي، يجب إيلاء العناية الكافية لبرامج الرفاه الاجتماعي، مثل أن يتم فرض تأسيس النوادي الاجتماعية لكل مؤسسة من المؤسسات الحكومية وبدعم مالي حكومي، وتفويض أراضي الدولة المترامية على مختلف أنحاء المملكة وغير المستغلة الى موظفي القطاع العام لإقامة المباني والاسكانات عليها مقابل أقساط رمزية شهرية يدفعها الموظف حفظا لكرامته والشعور بالأمان الحياتي له ولأولاده، وإيفاد الموظفين المتميزين في دورات تدريبية خارج المملكة، وغير ذلك. ويشترط للاستفادة من هذه البرامج الترفيهية توخي العدالة والمساواة والموضوعية والنزاهة.
ط. العدالة الوظيفية والثواب والعقاب: توجد لدى القطاع العام منظومة جيدة من القوانين والأنظمة والتعليمات الخاصة بالعقوبات التي يجب ان تفرض على الموظف حال ارتكابه أي مخالفة وظيفية أو مسلكية، بالإضافة الى مدونة السلوك الأخلاقي للعاملين في القطاع الحكومي. غير أن التراخي في تطبيق هذه المنظومة القانونية قد يؤدي إلى ظهور مظاهر شاذة عما ألفه الناس من انضباطية الموظف الحكومي في الأردن، مثل: ظاهرة التطاول على المراجع الإدارية، وبعض مظاهر الرشوة، والاعتداء على المال، والفساد الإداري، وعدم الانضباطية في ساعات الدوام واستغلالها للمصلحة الشخصية، والمحسوبية في منح المكافآت والترقيات والايفاد والتدريب وغير ذلك، وعلى كافة المستويات الإدارية. إن معالجة هذا الأمر تتطلب الحزم والجدية في تطبيق هذه المنظومة القانونية، ومعاقبة ليس المسيء فقط وانما أيضا مَن يتراخى في تطبيق هذه القوانين أيا كان موقعه الوظيفي، وعلى أساس من تحقيق العدالة الوظيفية.
ي. إدارة الإبداع والابتكار: منذ سنوات عديدة، اتجهت الدول المعنية بتبوء المراكز المتقدمة عالميا، في مجال تقديم أفضل الخدمات لمواطنيها وللمستثمرين القادمين إليها، نحو دعم وتشجيع الابداع والابتكار في مؤسسات القطاع العام لديها، بهدف الوصول الى مبتغاها، ووضعت من الآليات والتسهيلات بين يدي العاملين فيها ما يكفي ليقال عن حكومات تلك الدول أنها حكومات قائمة على الابداع والابتكار. وفي الأردن توجد "جائزة الموظف المتميز" وجائزة الموظف المثالي" وغير ذلك. ولكن للإنصاف يجب القول إن تلك الجوائز تركز على الإنجازات الاعتيادية للموظف بما في ذلك انضباطيته وسلوكه في عمله، ولم يتم وضع معايير خاصة بدعم الابداع والابتكار في الجهاز الحكومي، ولم نسمع عن ابداعات وابتكارات حققت نتائج إيجابية في أداء أي من المؤسسات الحكومية، وإنْ وُجِد ذلك فأعتقد انها محاولات فردية. وبالتالي يجب ان يتم وضع استراتيجيات خاصة بالإبداع والابتكار في القطاع الحكومي، وخطط عمل ومعايير لتنفيذ ذلك على أسس علمية وموضوعية. وباستطاعة كل مؤسسة أن تخصص جائزة لدعم الابتكار والابداع لكل مجال من مجالات عملها ولكل مديرية من مديرياتها.
ك. توفير البيئة التنظيمية الإيجابية: وهي البيئة المحفزة للعاملين التي تضمن توفير وتعزيز الثقة المتبادلة بين رأس الهرم الإداري وبين الموظفين، وتعزيز الاتصالات المفتوحة بين الطرفين، وتضمن مشاركة العاملين في جميع مجالات التحديث والتطوير والتحسين، وتفجر الطاقات الإيجابية الكامنة لدى الموظفين، وتحفز الابداع والابتكار، وتسودها أجواء الديمقراطية الإدارية، وتجسد مفهوم العدالة والمساواة، وغير ذلك، وهو ما يجب أن يسود مؤسسات القطاع العام في الأردن.
3. ترهل الجهاز الإداري: يلاحظ أن عدد الوزارات في كل تشكيلة حكومية أصبح أمر مبالغ فيه، إذ يبلغ نحو (30) وزارة تقريبا مقارنة مع عدد الوزارات في الدول الأخرى الأكثر تقدما. وقد انعكس هذا الأمر على التوسع في زيادة أعداد العاملين في القطاع الحكومي إذ بلغ عددهم (220086) موظفا وموظفة لعام 2015 ومن مختلف الفئات الوظيفية. وهو رقم مرشح للارتفاع في عام 2016 بنحو (10000) موظف. ويعتبر هذا الرقم مرتفعا قياسا بعدد السكان، وبمستويات الأداء المتدنية التي يمكن التعرف إلى مؤشراتها من خلال نتائج جائزة الملك عبد الله الثاني لتميز الأداء الحكومي والشفافية، ونتائج دراسة أجريت سنة 2012 والتي بينت ان المعدل العام لعدد ساعات العمل لدى موظف القطاع العام في الأردن يبلغ (4) ساعات يوميا كحد أقصى. ومما لا شك فيه، أن مثل هذا العدد له الكثير من السلبيات مثل: العبء الهائل على مالية الدولة الأردنية، وانخفاض معدلات التوجه نحو العمل في القطاع الخاص، وارتفاع فاتورة التقاعد، وارتفاع نسبة البطالة المقنعة وما يترتب عليها من آثار سلبية على ممارسات العاملين في المؤسسات الحكومية، وغير ذلك. ومن أجل الحد من هذه الظاهرة، يجب التوقف عن التعيين في القطاع العام الا ضمن الوظائف الفنية الضرورية، وخفض سن التقاعد، وعدم التمديد ولأي سبب من الأسباب لمن بلغوا هذا السن، والتوقف عن التعيين في الوظائف القيادية العليا (أمين عام، مدير عام ... الخ) من خارج الجهاز الحكومي، بالإضافة الى سد الاحتياجات من الموظفين من خلال دعم إجراء المناقلات بين المؤسسات الحكومية.
4. وزارة تنمية الموارد البشرية وتطوير القطاع العام: منذ أن تم إنشاء هذه الوزارة تحت مسميات مختلفة (وزارة التنمية الإدارية، وزير دولة لتطوير القطاع العام، وزارة تطوير القطاع العام) تعاقب عليها (21). ومع هذا، فإن مستوى الأداء الحكومي آخذ بالتراجع، ويؤكد ذلك ما أورده جلالة الملك في أكثر من مناسبة من ملاحظات حول الأداء الحكومي، بالإضافة الى نتائج جائزة الملك عبد الله الثاني لتميز الأداء الحكومي والشفافية، ونتائج قياس رضا المتعاملين، وما يلمسه كل مواطن أثناء مراجعته لأي مؤسسة حكومية. ومن أجل تحسين أداء القطاع الحكومي وتطويره، يمكن أن يتم:
أ. تشكيل لجنة لتطوير القطاع العام تضم مجموعة من أصحاب الخبرة والمعرفة في مجال الإدارة والإدارة العامة ممن عملوا في القطاع العام، تكون مهمتها دراسة الواقع الحالي لهذا القطاع، وتستأنس بآراء أكبر عدد ممكن من أصحاب العلاقة، والخروج بتوصيات علمية عملية لا إنشائية تحقق الهدف المنشود
ب. وضع رؤيا واستراتيجية لتطوير القطاع العام للسنوات العشر القادمة استنادا على نتائج أعمال اللجنة المشار اليها
ج. إعادة هيكلة وزارة تطوير القطاع العام وفقا للرؤيا والاستراتيجية التي سيتم وضعها
د. بذل الجهود الحثيثة لاستعادة موظفي الوزارة أصحاب الخبرة والكفاءة الذين غادروها خلال السنوات الماضية لأكثر من سبب، وعملوا على المساهمة في نهضة القطاع العام في دول أخرى، مع النظر بعين الاعتبار لضرورة توفير البيئة الجاذبة لهم ماليا ومعنويا
ه. تعيين وزير متفرغ متخصص لوزارة تطوير القطاع العام وممن خدم في هذا القطاع، إذ لا يعقل أن تكون وزارة كهذه الوزارة، وبأهمية المهام الموكلة إليها تدار من قبل وزير آخر تحظى مهام وزارته بنفس أهمية مهام وزارة تطوير القطاع العام
و. نظرا لما للموارد البشرية من أهمية، وتوجه دول العالم نحو اعتبارها رأسمال يتفوق على رأس المال المادي في خلق التميز والتحسين والتطوير، أقترح أن تصبح وزارة تطوير القطاع العام "وزارة تنمية الموارد البشرية وتطوير القطاع العام" نظرا لما لارتباط المفهومين ببعضهما ارتباطا قويا. ويتم دمج جميع الجهات الحكومية العاملة في مجال الموارد البشرية في هذه الوزارة
5. جائزة الملك عبد الله الثاني لتميز الأداء الحكومي والشفافية: تعتبر هذه الجائزة أداة توجيه وإرشاد نحو القيام بعمليات التحسين والتطوير وتحويل نقاط الضعف الى نقاط قوة في مؤسسات القطاع العام. ومع ذلك، فإن هذا الأمر ما يزال لا يحظى بالاهتمام الكافي من قبل القيادات الإدارية العليا، معتقدين أن هذا الأمر نوع من الترف الإداري، وأن هناك من القضايا الأخرى ما هو أهم من تكريس الموارد والجهود لهذه الجائزة. وقد تجلى ذلك واضحا من خلال إحجام عدد من المؤسسات عن المشاركة في هذه الجائزة، وعدم تقديم الدعم المطلوب من تلك القيادات العليا وعدم إظهار الالتزام المطلوب، وتراجع نتائج تقييم أداء عدد لا بأس به من المؤسسات، او عدم تحقيق أي تحسن عن السنوات السابقة. ويقتضي الأمر في هذا السياق إخضاع جميع القيادات الإدارية من مختلف المستويات الى دورات تدريبة – وليس جلسات توعية – كدورات المقيم المعتمد حتى تتمكن تلك القيادات من متابعة جهود المؤسسة في مجال التميز، ويظهر التزامها ودعمها لتلك الجهود، بالإضافة الى تطبيق مبدأ الثواب والعقاب على جميع العاملين – بدءا من القيادات العليا وانتهاء بالطبقة الإدارية الدنيا - في المؤسسات بهدف عدم عرقلة العمل، وتحسين نوعية المكافآت التي تحصل المؤسسة عليها في حال فوزها. وفي الوقت نفسه، فإن الأمر يتطلب إعادة النظر في معايير هذه الجائزة وآلياتها بما يتماشى مع التطورات التي حدثت في البيئة الخارجية والمحلية عبر السنوات الماضية، سيما وأن الأنموذج المعتمد قد مر على استخدامه ما يزيد على عشر سنوات.
6. إعادة دراسة برنامج الهيكلة: من بين المبررات التي تم الحديث عنها بهدف تطبيق برنامج هيكلة القطاع الحكومي عام 2012 هو أن هذا البرنامج سيعمل على تحسين أداء وترشيق القطاع الحكومي من خلال إخضاع المؤسسات المستقلة لنظام الخدمة المدنية، وقد بلغت كلفة تطبيق هذا البرنامج ما يزيد على (465) مليون دينار أردني سنويا. وباعتقادي أن البرنامج لم يحقق الأهداف المطلوبة منه، إذ أن مستوى الأداء الحكومي قد تراجع وبخاصة في المؤسسات المستقلة التي تم دمجها. ولذلك، يجب إجراء دراسة علمية حول النتائج التي ترتبت على تطبيق هذا البرنامج من مختلف النواحي، وبخاصة فيما يتعلق بعملية إخضاع المؤسسات المستقلة لنظام الخدمة المدنية
7. الاستراتيجيات والتخطيط الاستراتيجي: بداية يجب القول في هذا المجال إن عملية التخطيط الاستراتيجي هي من أعقد وأهم الوظائف التي يتوجب على أي مؤسسة القيام بها من أجل وضعها على الطريق الصحيح. توجد لدى الغالبية العظمى من مؤسسات القطاع العام استراتيجيات. لكن العديد من هذه الاستراتيجيات غير مفعلة، ويعاني من وجود جوانب ضعف عديدة لا مجال لتفصيلها الآن. ونظرا لأهمية هذا الجانب، ولتدارك جوانب الضعف في المجال الاستراتيجي فإن الأمر يتطلب:
أ. توافر مهارات التخطيط الاستراتيجي والبناء الاستراتيجي لدى القيادات الإدارية في جميع المؤسسات الحكومية
ب. إيفاد فريق من العاملين في كل مؤسسة الى الكليات والمعاهد المتميزة المتخصصة في التخطيط الاستراتيجي لتحصيل العلوم والمعارف والخبرات في هذا المجال، على أن تقوم هذه الفرق بتدريب باقي أفراد المؤسسة على عملية التخطيط الاستراتيجي ونقل المعرفة التي امتلكوها في هذا المجال الى زملائهم في المؤسسة
ج. وفي حال تعذر تنفيذ التوصية المشار اليها في أعلاه، أقترح وجود خبير / خبراء متخصصين في التخطيط الاستراتيجي أثناء قيام المؤسسة بوضع خطتها الاستراتيجية
د. الالتزام بعدم إلغاء الخطط الاستراتيجية مع تغير رأس الهرم في المؤسسة، ذلك ان الخطط الاستراتيجية يتم وضعها لتغطي عددا من السنوات القادمة، مع إمكانية مراجعتها لتتواءم مع مستجدات البيئة الخارجية ولكن ليس إلغاؤها كلية.