عصر التحليل
لا ريب ان «مورين وايت» صاحب كتاب «عصر التحليل» (THEAGE OF ANALY SIS) لو كان امتد به عمره الى ايامنا هذه ورأى هذه الكثرة من المحللين السياسيين، في الصحف والفضائيات واروقة الاكاديميات، لكان انجز كتابا آخر بعنوان «عصر الثرثرة والتدجيل»، ولكان وجد شواهد متكثرة على صدق الفرضية التي يتضمنها هذا العنوان الجديد.
لقد نظر «وايت» الذي ترجم الاخوة السوريون كتابه الى العربية في منتصف السبعينيات الى المشهد الفلسفي في القرن العشرين فرأى ان اغلب الفلاسفة المعاصرين غير معنيين بابتناء الانساق او التركيبات الفلسفية ذات الطابع الشمولي او المذاهب الفلسفية الضخمة على نحو ما كان من الفلسفات التقليدية، وان عنايتهم انصبت على تحليل الافكار وتوضيح العبارات، مما يذكرنا بعلماء أُصول الفقه في تاريخنا الاسلامي، وبمباحثهم في السبر والاكتناه وتحقيق المناط وتنقيح المناط وغير ذلك من مباحثهم الدقيقة.
ولقد كنت اشرت في كتاب مبكر لي «الرافضون» الى فصل عقده مورين وايت في كتابه آنف الذكر لتصور «ادموند هوسرل» لكيفية تشكل الوعي الانساني انطلاقا من تمثل الطفولة لما حولها، وعقدت مقارنة بين ما قال «هوسرل» في ذلك وما كان اورده ابن حزم الاندلسي في المسألة نفسها.
والفلسفة التحليلية التي اثبتت حضورها في القرن العشرين معنية – بوجه عام – بفك المركبات الى اجزائها، وذلك في مقابل تركيب او بناء «الكل» من الاجزاء.
ويقول الدكتور عزمي اسلام في كتابه: «اتجاهات في الفلسفة المعاصرة»، ان «التحليل» المقصود عند اصحاب هذه النزعة هو «رد الموضوع الذي نتناوله بالبحث الى مصادره وعناصره الاولية، سواءً اكان ذلك الموضوع فكرة في الذهن او قضية من القضايا، او عبارة من عبارات اللغة، او واقعة من وقائع الحياة، ايّاً كان الغرض الذي يسعى اليه الانسان من وراء هذا التحليل».
واذ تستوقفنا عبارة: «ايا كان الغرض» من التحليل، ونربطها بما اورده الدكتور اسلام من حديث فيلسوف التحليل «جورج مور» عن التحليل من حيث تعلّقه بمركبات مفهومية او تصورية، فان بنا ان نتصور امكان ان تؤثر هذه المركبات المفهومية او التصويرية على الحياد الموضوعي للتحليل، ولا سيما «التحليل السياسي» الذي يتناول الواقعات مسكوناً بمركبات مفهومية سابقة.
واذا نحن اخذنا في اعتبارنا الاهواء والاغراض والنزعات الايديولوجية والمصالح الشخصية، فان مما نتوقعه (بل مما نشاهده) ان التحليل يصبح مهارة او «تقنية خداع» حين يكون رد الموضوعات الى مُسَلّمات صاحب التحليل لا الى مصادرها او عناصرها الاولية، وحين يكون مطلوبا من «الواقعة» التصديق القسري للافتراض السابق او للهوى الذاتي والنزعة الايديولوجية.
قد يقول قائل ان التحليل بما هو توضيح للافكار واختبار لصدقها لا تعلق له بالسياسة من قريب او بعيد، لان رواياتها في الغالب مشكوك فيها، والعلم لا يُبنى على الشكوك، ولانها تظهر ما لا تبطن، والحق ظاهره متصل بباطنه وموافق له.
كما قد يقول قائل آخر إن السياسة قائمة على «ألعاب اللغة» فاذا زيد الى ذلك خراب ضمائر «المحللين» امكن القول بقيام «عصر التدجيل» لا «عصر التحليل»، مع الاعتذار لمورين وايت ولكل فلاسفة التحليل.