دولة أميركا العميقة
ربما لأنها ابنة المفاجأة أصلاً، لا تكاد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تتوقف عن تفجير مفاجآت متتالية؛ سواء كان ذلك ارتهاناً لنشأتها الأولى أو وفاء لها. آخر المفاجآت كان إعلان هذه الإدارة اكتشافها "دولة عميقة" في الولايات المتحدة الأميركية، رغم أن أي مطلع ولو بالحد الأدنى على الشؤون الأميركية، بل وكثير جداً من العامة في العالم أجمع، يعرفون عن هذه "الدولة العميقة"، حين يصفون الولايات المتحدة بأنها "دولة مؤسسات". وهي لذلك؛ أي بفضل "الدولة العميقة المؤسسية"، خسرت حروباً (فيتنام على الأقل)، وعرفت رؤساء فاشلين بالتقييم العام (هوفر) أو طالتهم فضائح سياسية وأخلاقية (نيكسون وكلينتون)، لكنها بقيت دولة عظمى؛ ليس عسكرياً فحسب، بل أهم من ذلك والأساس، معرفياً وصناعياً واقتصادياً.
إزاء ذلك، يكون واضحاً تماماً أن ما يريده ترامب وإدارته فعلياً هو مماثلة "الدولة العميقة" في الولايات المتحدة، بتلك التي يتم استحضارها تلقائياً عند ذكر المفهوم، وترتبط بتجارب دول العالم الثالث خصوصاً؛ حيث تكون "الدولة العميقة" على حساب الدولة ذاتها، حماية لفئة أو فئات محدودة بغض النظر عن الثمن. ووفق هذا النموذج، تكون المؤسسة الوحيدة الموجودة، بالمعنى الحقيقي للكلمة، هي مؤسسة الفساد التي لا تتأثر بمرور الزمن مهما طال، وضمن ذلك تغير الأشخاص، ولو كلياً، بحكم عملية الإحلال المتواصلة التي لا تسمح بحدوث فراغ أبداً. ولعل نجاح الثورة المضادة على "الربيع العربي" أكبر دليل، ولا سيما مع الإصرار على السياسات ذاتها التي أدت إلى الانفجار أساساً؛ فالفساد لعبة صفرية بطبيعتها.
قد يُقال – بشديد صواب - إن ثمة ملامح "دولة عميقة عالمثالثية" في الولايات المتحدة. وربما يكون المثال النموذجي للبعض هنا، الغموض الذي ما يزال يلف اغتيال الرئيس الأسبق جون كينيدي. لكن بعيداً عن التخمين ونظرية المؤامرة، فإن نتائج "تقرير تشيرتش" مثلاً، نسبة إلى عضو الكونغرس فرانك تشيرتش، بشأن الممارسات السرية غير القانونية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي. آي. إيه"، دليل نهائي على هذه الملامح.
لكن الأهمية الفعلية لهكذا أمثلة؛ أكانت مثبتة أم تآمرية أم مختلقة، ليس إلا التأكيد على النزوع التلقائي للسلطة –أي سلطة- نحو الاستئثار، فالاستبداد، فالفساد، وصولاً إلى الانهيار؛ معنوياً في مرحلة أولى، وغالباً مادياً بالنتيجة النهائية. ولتكون مواجهة هذه النزعة عملية متواصلة بالضرورة، لا يمكن أن يُقال يوماً بشأنها إنها عملية منجزة. وهذا بدوره ما يثير السؤال عن محددات ضمان استمرار وجود "دولة عميقة مؤسسية" تعمل لأجل الدولة - بمعناها المتعارف عليه- بكل مواطنيها، وليس لفئة أو طغمة؛ كما لا تكون هذه الدولة بالمعنى القانوني، من ناحية أخرى، بحاجة إلى "زعيم خالد" يحكمها ولو كان ميتاً سريرياً، فكيف إن كان خلوده الفعلي من فشله وما خلفه من مآسٍ؟!
معروف بداهة أن هكذا محددات متعددة. لكن يظل جوهرها دائماً وأبداً هو "المجتمع القوي" الذي بدعمه تتمكن المؤسسات من موازنة بعضها بعضاً، ومنع تغولها؛ بل هي تتحرك أو ترتدع بضغط مجتمعي أساساً؛ تتم ممارسته عبر مؤسسات المجتمع المدني، والإعلام خصوصاً، كما تؤكد كل تجارب التقدم والتخلف على مستوى العالم ككل.