نزهة العقل
فيها تذهب إلى ما تحب، بدعوةٍ ممن تحب، أو ربما تحل ضيفا عزيزا على من يودك أو توده، دون موعد أو سابق إذن، فغالبا ما تدعو نفسك إلى حدائق غنّاء، لا يلفها سور يحميها، ولا يقف حارس على أعتابها، ولا تهتم بأعراف تراعيها، ويمكنك العبور إليها متى تشاء، كيف تشاء، لن تحدك مواعيد مرهقة، لك الحرية أن تبقى أو تذهب، وعندما تجتاز عتباتها أو تعبر إلى ساحاتها؛ قد تركن إلى الدعة، أو يُخصَّب منك الذهن، أو يُشق لك فجرا في الآفاق، تصعد تلالا، وتتسلق اشجاراً، وتقطف أزهاراً، لا ينهرك أحدٌ، فأنت مرحبٌّ بك في الحل والترحال، وإن اخترت المغادرة صحبتك السلامة.
إذا الحّ عليك داعي الزيارة، فأنت تختار من تزوره أو تشتبك معه، ويمكنك أن تقرر نزهتك أو صحبتك، تكملها أو تتركها، دون أن تلمح غضبا أو تلقى عتبا، يرجوك راعي البستان ويتودد اليك أن تكمل نزهتك في جنبات بستانه، آملا منك حينها أن تقدّر الجهد والوقت الذي أنفقه في تجويد البناء، ليغذي العقول وينمي الأذواق ويرتقي بها، يعرض عليك أجود الثمار، يتمنى أن تشارك ما تجنيه مع من تحب، فالدال على الخير كفاعله، لكنك في كل حال ستجد أن نزهتك قد أثمرت، وبنفسك تقدِّر قيمة ما جنيت، فهي تجارة رابحة، يمكنك أن تتقاسمها مع من تحب أو تفيد، أمّا ما يثير فرحك دائما وفرة الحدائق وقربها واتساعها، لا تحتاج تكليفا ولا تجهيزا، تخرج من إحداها لتدخل أخرى، يطيب لك المقام هنا أو هناك، أمّا إن انتهت نزهتك فكأنما فقدت عزيزا.
تلك هي نزهة العقل في بستان الكتاب، ورحم الله الاديب الكبير الجاحظ حيث قال: "لا توجد شجرة أطول عمرا، ولا أجنى ثمرا، ولا أقرب مجتبى من كتاب" مثلما يقول غيره: "الكتب حصون العقلاء التي يلتجئون اليها، وبساتينهم التي يتنزهون بها" فهنيئا لكل من أحسن اختيار النزهة، يقطف من الورود أجملها، ومن الثمار أطيبها، لا يكل ولا يمل، فهذه نزهة تمتلك عليك نفسك، تُشرَّع لك النوافذ الموصدة، وتوصلك إلى الدرر النفيسة، تختارها مكاناً وزماناً وصحبةً، وقت ما شئت وتعود عنها لو سئمت، لكن مضيفك دائما يقابلك ببشاشة المحب، لا بمنة المتفضل، ولا يسعده غير ما أفدت بما جنيت.