سرقة المتنبي
لست أذكر أول لقاء بيني وبين المتنبي! متى؟ أين؟ كيف؟ لست أذكر حقا!
هل يا ترى كان اللقاء الأول في رواق بيت شعر له ردده والدي الطيب على مسمعي أم كان على شاطئ بحر من بحار قصيدة له في خليج من خلجان كتاب مدرسي؟ حقا إن ذاكرتي لا تسعفني في تخمين ما وراء كواليس الماضي!
لكن اللقاء الأول -بيني وبين من قيل عنه إنه ادعى النبوة- كان قد رسم لوحة إنطباعية على جدران ذاكرتي ما زال سحرها يتألق في مخيلتي!
وتتجلى اللوحة الإنطباعية في أوج رونقها عندما تنساب في وهاد وجداني جداول من الإنبهار وأنا ألتقي بمن نبش ذات دهر من الدهور في صندوق القناعة فوجده خاليا من "كنز لا يفنى":
إذا غامرت في شرف مروم*فلا تقنع بما دون النجوم
اللوحة الإنطباعية هذه كانت مرآة لسحر متوهج فيمن يقدم الدم قربانا للشرف الرفيع على مذبح المكان في هيكل الزمان:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى*حتى يراق على جوانبه الدم
وإذ أتأمل ألوان اللوحة الإنطباعية، تجدني أتبادل النظرات مع "أشرف" المفتون جدا بجاذبية فارس لا يمتطي صهوة جواد إلا ما كان سرجه سابحا، ولا يختلي منكفئا عن دنياه إلا برفقة ما كان خير جليس:
أعز مكان في الدنا سرج سابح*وخير جليس في الزمان كتاب
وفي إحدى المرات التي إلتقيت فيها به تملكني الذهول بعميان يقرأون أمامه شعره، وصم يستمعون إلى أدبه:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي*وأسمعت كلماتي من به صمم
وفي زاوية من زوايا المكان، سمعت خلسة أحدهم يذم المتنبي، فتهادت موجات الصدى إلى الذام، تحمل إليه جواب المذموم:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص*فهي الشهادة لي بأني كامل
وفي غفلة من الزمان، على ضفاف نهر النيل، سألته ذات مرة: لمن هذه العصا التي بيدك؟ أجاب: للعبد النجس المنكود كافور الإخشيدي!
لا تشتر العبد إلا والعصا معه*إن العبيد لأنجاس مناكيد
والتقيت بالمتنبي فيما بعد مرارا وتكرارا، وفي كل مرة ألتقي به، تشتد الجاذبية بي إلى شخصيته الفذة، ويزداد سحر شعره ألقا في أعماق جناني، وتنساب جداول الإنبهار بكلماته برقة أرق وعذوبة أعذب حتى وصل بي الأمر أن نسخت بخط يدي على ورق "فولسكاب" ذات زمان جميع قصائد له ضمها بين دفتيه كتاب أحضرته لي والدتي الحبيبة من مكتبة المدرسة! إذ كان علي أن أعيد الكتاب المستعار.
وقبل نحو خمسين دورة للأرض حول نفسها، التقيت به في ديوان له رص بنيانه د. الحسينى الحسينى معدي. صافحني المتنبي هذه المرة بحرارة أذابت الثلج فوق المرج المزروع في حديقة بيت شعره المزخرف بالحكمة:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه*تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
أيقنت حينها يقينا تاما إن ثمة خطأ وقع به واحد من إثنين أو كلاهما: د.علي حسين الوردي، ود. أنيس عبد الخالق محمود.
والثاني قام بتعريب رسالة دكتوراة للأول عنوانها "نظرية المعرفة عند ابن خلدون، دراسة تحليلية"، وفي ترجمة الرسالة، الطبعة الأولى لدار الوراق (2018)، نقرأ في الصفحتين (45-46):
إذن، فالإنسان ليس حرا في أن يكون موضوعيا ومحايدا تماما في ملاحظاته. يقول ميرت مور (2)*: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
ويعلق المترجم في هامش له أورده في الصفحة السادسة والأربعين:
(2)*: ميرت مور (Merritt H. Moore): لم نعثر على تعريف له.
أما أنا وفي إحدى جولاتي في طرقات العالم الافتراضي، كنت قد عثرت على ميرت مور في أكثر من شخص، وما من إشارة من بعيد أو من قريب أشارت إلى إن أي شخص بهذا الإسم قد قال ذات عصر من العصور: "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن".
لكن، وفي باب الإجتهاد، أضع إحتمالا يفسر كيف إن عالما عبقريا مثقفا واسع الاطلاع مثل صاحب الأطروحة، وأستاذا لا أستطيع الحكم عليه لجهلي به -المترجم- نسبا إما معا أو كل على حدة أو أحدهما دون الآخر عجز بيت شعر للمتنبي لشخص إسمه ميرت مور، يقوم هذا الإحتمال على إنه من الممكن إن ميرت مور كان قد اقتبس "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن" من أحد المصادر أو المراجع أو الكتب دون أن يشير إلى قائلها المتنبي إما بقصد أو بغير قصد. ولربما أشار ميرت مور إلى قائلها المتنبي، لكن لا صاحب الرسالة ولا المترجم قد أخذا بعين الاعتبار إشارته هذه، وما أدرانا؟
أن ينسب قول طفق به لسان شاعر عربي لغيره أيا كان هذا الغير أشبه ما يكون بأن سويداء القلب العربي يتم اقتطاعها في عملية جراحية تتم في تخدير كلي للعقل العربي!
والويل لمن تسول له نفسه أن ينسب لنفسه ما للمتنبي، فإن للمتنبي سبعة شهود:
الخيل والليل والبيداء تعرفني*والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وأنا ثامنهم!