الثأر الساخر
قرأت رواية (موسم الهجرة الى الشمال) قبل أكثر من 35 عاما، وقد اهدرت عقدا كاملا من حياتي فيما بعد لأدرك ان الطيب صالح لم يكن يقصد اطلاقا ان يقدم لي صورة البطل القدوة، كما لم يكلف نفسه عناء ادانة ممارسات مصطفى سعيد. بل ترك ذلك للقارئ ...ولم أكن معتادا على ان امتلك الخيار والقرار.
كان يكفي الطيب صالح ان يكتب روايته (موسم الهجرة الى الشمال) ليتربع على عرش العبقرية الأدبية التي اوصلت روايته ليتم اختيارها عام 2002 لتكون من بين أفضل مئة رواية عالمية في تاريخ الإنسانية.
المضحك المبكي في الموضوع ان هذه الرواية التي اعتبرت اول عمل ادبي كبير يتناول الصراع بين الحضارات، حتى قبل التنظير له فكريا من صمويل هنتنجتون في كتابه (صراع الحضارات)..المضحك المبكي ان هذا العمل العظيم قد منع في بلده السودان منذ2007 ، وربما لا يزال المنع ساري المفعول حتى الان، على اعتبار ان الرواية تنتمي الى ادب (البورنوغرافي)..يعني الى الأدب الجنسي !!!!
بوفاة الطيب صالح خسرنا واحدا آخر من جيل العمالقة امثال نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وجبرا ابراهيم جبرا ومحمد الماغوط ومحمود درويش وغيرهم.... جيل ربما هو في طريقه الى الإنقراض بعد انتهاء عصر العمالقة في كل شي..في الأدب والعلم والسياسة والفلسفة والفكر والفن والموسيقى.....!!
مصطفى سعيد بطل موسم الهجرة من الشمال كان ساخرا كبيرا على طريقته، انه ابن الشعوب المقهورة المستعمرة الذي يترك بلده ويصعد الى عاصمة البلد المستعمر (بكسر الميم طبعا) بحثا عن الثأر ممن أذل شعبه وانتهك بلده وكرامته واستعبده.
لكن مصطفى سعيد كان يبحث عن ثأر ساخر وعدواني ، يصل في نهايته الى القتل ..قتل جين موريس(المكافل الرمزي للآخر المستعمر) التي لا تكف عن الإبتسام للسخرية من البطل ....فينتصر عليها اخيرا بالنجاح في امتلاكها ..ثم قتلها.
هكذا.. ينتصر مصطفى سعيد على المستعمر بالقتل والاعتداء ، كما انتصر المستعمر على بلده بالقتل والاعتداء، ثم يدفع البطل ثمن جريمته بالسجن، بعدها يعود الى بلده ليعيش في قرية صفيرة معزولة حياة مفرطة العادية ، بعد ان تخلص من عقدة المستعمر ليوصي الراوي بأن يحاول ابعاد ولديه ،الذي انجبهما من زواجه بعد العودة، عن الفضول والترحال.
بالمناسبة ، الفتح الجديد الإضافي في عالم الرواية العربية ، ان مصطفى سعيد ..البطل ، لم يكن يحمل ايا من صفات البطولة المنمذجة، لا هو بالقوي ، ولا بالوسيم، ولا بالعبقري، ، بل هو انسان عادي وإشكالي، وانطباعات معارفه اكثرها سلبية ،..انها بطولة عفوية متمردة على الأطر التقليدية الجاهزة.
كل هذا المقال كتبته لأتمنى النجاح للتجربة السودانية الجديدة، وأن يرفع الحظر عن رواية موسم الهجرة الى الشمال.
الدستور