كيف نستقبل رمضان
إن رُمتُم عزًّا سرمدًا فاتقوا الله العظيمَ الأمجدا، واغتبِطوا بشهر الصيام تُفلِحوا اليوم وغدًا؛ فالسعيدُ من اتقى ربَّه واهتدَى، ولم يُضيِّع شريفَ الأوقاتِ بدَدًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
عليك بتقوى الله سرًّا وجهرةً ففيها جميعُ الخير حقًّا تأكَّدا
لتُجزَى من الله الكريم بفضلِه مُبوَّأ صدقٍ في الجِنــانِ مُخلَّدًا
في مُضِيِّ المسلِم لربِّه بالآصال والبُكور، وفي سَيره لمولاه في جميعِ الأمور، مع ما يكتنِفُ ذلك من المادّيات، وما يُصاحِبُه من مُتغيِّراتٍ، وما يعيشُه كثيرونَ مِن فراغٍ وإجازاتٍ وأَسفارٍ وسِياحةٍ وتنقُّلات، وما تُعانيه الأمَّةُ مِن أحداثٍ ومُستجِدَّات، لا غرْوَ أن ينتابَه التواني والفُتور، والنَّمطِيَّةُ عبرَ الشهور؛ بل لربما التِّرَةُ والقصور في القِيَم والعباداتِ وشتَّى المجالات.
مِن أجل ذلك -وما أعظم ما هنالك!- خصَّنا المولى جلَّ اسمه بأزمنةٍ مباركةٍ ومواسم، بالخيرات والمِنَح نواسِم، اكتنَزَت حِكَمًا لاستنهاضِ النفوس مقصودة، وغاياتٍ باهراتٍ للتشويق للطاعات معقودة، فيها ينعطِفُ المسلمُ لشِيَمه التعبُّدية المحمودة، ويُعاوِد انبعاثَته في الخير المعهودة.
ومن تلك الأزمنةِ المَشُوقة شهرٌ عظيمٌ شأنه، شريفٌ زمانه، تبدَّى ببهائه إلينا، وأقبلَ برائع مُحيَّاه علينا، فيه تُدرِكُ النفوسُ ألَقَ الإحسان، ونداوَة اليقين وحلاوةَ الإيمان، إنه شهر رمضان المُبارك الميمون، أقبل ليُجدِّد لنا في كل يومٍ مسرَّةً وبُشرى، وينفَحَنا أريجًا طابَ عَرْفًا ونشرًا، ويُذكِّي القلوبَ بالرحمات وقد أصارَها لدَيه أسرى، وكم شدَّ بالتراويح والتهجُّد منا أزرًا وأزرًا، وأدلَجَ بنا في أنداء الطُّهر وأسرَى.
إنه شهرُ الصيام والقيام، أقبلَ ليُوقِظَ فينا جمالَ الرّجاء، ولذَّة الدعاء، وشوقَ التبتُّل الصادق الهتَّان، وتباريحَ التضرُّع الفَيْنان، بين يدَي الرحمن، ولننهَل من كوثره الرقراق كؤوس الهُدى الدِّهاق، فيُحيلُ بإذن الله أرواحَنا أزهارًا مُمرِعة بسُيُوب الغفران، أشِيَةً بخمائل الرضوان.
فأهلاً بشهــــر التُّقى والجُود والكــرَمِ شهر الصيامِ رفيعِ القدرِ في الأُمـــمِ
نفوسُ أهل التُّقَى في حبِّكم غرِقَت وهزَّها الشوقُ شوقُ المُصلِح العلَمِ
ضيفُكم الكريم هو الفرصةُ السانِحة، والصفقةُ الربانيةُ الرابحة؛ للتزوُّد للدار الآخرة بالأعمال الصالحة، وليس إلى مرضاة الرحمن بحمد الله كبيرُ مشقَّةٍ واقتحامِ عناء، إن راقبَ المسلمُ نفسَه وأولاهَا الحزمَ والاعتناء، وبادرَ إلى الطاعةِ دون تلكُّؤٍ أو وَناء، مُعتبِرًا بمن كانوا بيننا في العام الماضي وقد سرَت بهم المنَايَا القواضِي.
فالبِدار البِدار إلى فضل الله الممنوح قبل فواتِ الروح، وأجهِدوا أنفسَكم أن يكونَ عهدُ التوانِي منسوخًا، وزمنُ التسويفِ مفسوخًا. وفي مأثور الحِكَم: 'من أشدِّ الغُصَص فواتُ الفرص، ومن أخلدَ للتواني حصدَ الأوهامَ والأماني'. وخيرُ الدُّرَر ما صحَّ عن سيد البشر -بأبي هو وأمي- عليه الصلاة والسلام؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يجتهِد في رمضان ما لا يجتهِد في غيره. رواه مسلم. ومن شمَّر عن ساعدِ العبادة والجِدِّ انصرفَ بمديد الفوز والجَدِّ.
يا أمتي استقبِلوا شهرًا بروحِ تُقًى وتوبةِ الصدقِ فالتأخيرُ إغواءُ
توبوا إلى ربكم فالذنــــبُ داهيــــةٌ ذلَّت به أممٌ واحتلَّها الــــــداءُ
في رمضان يفتحُ الحُبور للصائم بابًه، ويفوزُ يومَ يُؤتَى باليمين كتابَه، وإذا لقِيَ ربَّه وفَّاه حسابَه؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((للصائم فرحتان يفرحُهما: إذا أفطرَ فرِح، وإذا لقِيَ ربَّه فرِحَ بصومه)) خرَّجه الشيخان. وما دعا ربَّه إلا أجابَه، ولم يُوصِد دونه بابَه؛ يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن للصائم عند فِطره لدعوةً ما تُردُّ)) أخرجه ابن ماجه وغيره.
وإذا كانت أول ليلةٍ من رمضان صُفِّدت الشياطينُ ومرَدَةُ الجن، وغُلِّقَت أبوابُ النار فلم يُفتَح منها باب، وفُتِّحت أبوابُ الجنة فلم يُغلَق منها باب، ويُنادِي مُنادٍ: يا باغي الخير أقبِل، ويا باغِي الشرِّ أقصِر، ولله عُتقاءُ من النار، وذلك كل ليلة. أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وصحَّحه.
الله أكبر، ما أكرمه من عطاءٍ! وما أعظمَه من حِباء!
وكــــــم لله مــــــن نــفــــــحَــــــاتِ خــــــيــــــرٍ بمقدَمِك السعيدِ أخا السناءِ
فكم خشَعَت قلــــوبُ ذوي صلاحٍ وكم دمَعَت عيونُ الأتقيــــــاءِ
فحيَّ هلاً بمن اختار الخيرَ بنواحِيه وأطرافه، ولزِمَ المعروفَ من قواصِيه وأكنافِه، وكان دَيدَنُه الذكرَ والترتيلَ والصدقَة، والاستغفارَ والتوبةَ والنفقَة، وأداء الحقوق، والخروج من المظالِم، والرحمةَ والجُود على ذوي المَسغَبَة ممن أعوَزَهم الفقرُ والفاقَة والجفافُ والمجاعة.
وطُوبَى لقومٍ يُلقون قلوبَهم إلى القرآن بالتدبُّر والسمع، فتفيضُ أعينُهم من الوجَل بالدمع، أزلفَهم الله إليه وأرضاهم، وأكرمَ قلوبَهم بالقرآن وأحظاهم.
أمّة الصيام والقيام، تلك -وايْمُ الله، ثم وايْمُ الله- حقيقة القلوبِ والأجساد التي ما فُطِرت إلا لعبادة ربِّ العباد، ولتتملَّى مِنَح البرِّ الوَدود في محاريبِ الطاعات والسجود، فأين المُشتاقون لجنات الخلود؟!
ألا فلتجعلوا لجوارحِكم زِمامًا من العقل والنُّهَى، ورقيبًا من الورَعِ والتُّقَى؛ حِفظًا للصيامِ عن النقصِ والانثِلام؛ فأيُّ غَناءٍ في أن يدَعَ بعضُ المسلمين طعامَه وشرابَه ثم يركبُ الصعبَ والذَّلول للآثام والمُوبِقات والمعاصي والمنكرات؟! لا يردُّه من الدين وازِع، ولا ينزِع به من حُرمة الشهر نازِع. وتحذيرًا للوالغين في هذا المكرَعِ الآسِن وتنبيهًا يقول المصطفى : ((رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوعُ والعطَش، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامِه إلا السهرُ والتعب)) خرَّجه النسائي وابن ماجه.
وهل مقاصد الصيام العِظام -يا أمة خير الأنام عليه الصلاة والسلام- إلا تهذيبُ النفوس وترقِيَتُها، وزمُّها عن أدرانِها وتزكيتُها، وتقويمُ جُنوحِها، وسَوسُ شِماسِها وجُموحِها، وذلك هو المُرادُ الأسمَى والهدفُ الأسنَى من شِرعةِ الصيام في الإسلام؛ ألا وهو تحقيقُ التقوى، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، أي: تحقيقًا للتقوى ورجاءً، وغايةً وابتغاءً؛ فهل يعِي ذلك من غفَلوا عن مقاصد الصيام الحقيقية وكرِعوا في المقاصد الدنيوية الدنيئة من أهل الجشَع والطمَع والهلَع، وزيادةِ الأسعارِ وإغلاءِ السِّلَع، أو من أربابِ الشهواتِ القميئَة ممن يتسمَّرون أمام القنوات والفضائيات، فالله المستعان.
واستقبِلوا شهركم بالاغتِباط والاستبشار، وكثرةِ التوبة والاستغفار؛ فقد كان المصطفى يُبشِّر أصحابَه بقدوم شهر رمضان ويقول: ((قد أظلَّكم شهرٌ عظيم مُبارَك)) خرَّجه ابن خزيمة وابن حبان في 'صحيحيهما'.
وما ذاك إلا تهيِئةً للنفوس، وشحذًا للهِمَم، وتقويةً للعزائم عن الفُتور والنُّكُوص، فهنيئًا لأمتنا الإسلامية بحُلول شهر الصيام، ويا بُشرى لها بموسمِ الرحمةِ والغفرانِ والعتقِ من النيران، وبارَكَ الله لها في أيامِه الغُرِّ ولياليه الزُّهْر، وأصلَحَ فيه أحوالَها، وحقنَ دماءَها، وحقَّق وحدتَها، وجمعَ كلمتَها على الحق والهُدى، إنه جوادٌ كريم.
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185].
أمةَ الإسلام، يُهِلُّ علينا شهرُ رمضان المبارك وأمتُنا الإسلامية تلفَحُها المآسِي والفِتَن، ويطؤُها منسِمُ الرزَّايا والمِحَن، قد استحكَمَ في كثيرٍ من أقطارها الافتراق والاضطرابُ والشِّقاق، ولكن ثم لكن يحدُونا التفاؤلُ المُشرِق أن تقتبِسَ أمتُنا من مدرسةِ الصيامِ والقيام الحِكَمَ والعِظات والعِبَر الهادِيات، وأن تُفِيءَ إلى رحابِ الاتحادِ والاعتصام والتراحُم والوِئام، بدلَ الفُرقة والانقسام، وتنخلِعَ من ضيقِ المصالحِ الذاتية إلى سَعَة المقاصد الشرعية، ومن سَمِّ التعصُّبِ للآراء والأفكار إلى رَحابَة التشاوُر والحِوار، وتغليبٍ لصوت العقل والحِكمَة، وإلقاء السلاح، ووقفِ نزيفِ الدمِ المُهرَاق؛ صيانةً للدماء المعصومة، وبُعدًا عن الفوضَى والاضطراب، والفتنِ والعُنفِ والتدميرِ والاحتِراب، ورعايةً لأمن الأمة واستقرارِها واطمئنانِ البلاد والعباد.
ولكَم يتحتَّمُ ذلك ويتأكَّد، ويرجُوه الغَيُور من السُّوَيداء ويتوطَّد في شهر الخيرات والبركات، وتنزُّل القرآن العظيم والرَّحمات، يحملُ مِشعَلَ الإصلاحِ والإنقاذِ العلماءُ الربانيُّون الأعلام، وعلى آثارهم الدعاةُ والكُفاة من حمَلة الأقلام ورادَة النُّصْحِ السَّدِيد والرأي الحَصِيفِ الرشيد، حافِزُهم الإيمان الوثيق بالتسديد الحقيق.
والدعوةُ الحرَّاء مُوجَّهةٌ للقائمين على وسائل الإعلام كافةً أن يتقوا اللهَ سبحانه، ويُحسِنوا استقبالَ هذا الشهر الكريم، ويُراعُوا مكانتَه وحُرمتَه، ويصوموا عن كلِّ ما يخدِشُ روحانيَّتَه وبهاءَه، ويكُفُّوا عن التسابُق المحموم في بثِّ العفَنِ من القولِ والفعل.
عند ذلك سيبتسِم الأملُ بإذن الله في قُطوبِ اليأس، ويُومِضُ فجرُ انكِشافِ الغُمَّة في دامِس الظلام، وتؤوبُ أمتُنا المبارَكة إلى عليَاء الريادة والوَحدة والقوة، ومعاقِد عزَّتِها المتلُوَّة، وما ذلك على الحقِّ جل جلالُه بعزيز، ولكي يتحقَّق ذلك فإن الأمةَ مُطالبَةٌ بجدٍّ وإلحَاح وهي تستقبِلُ الشهرَ الكريمَ في كل أمورها ومجالات حياتها بالتوبة والإنابة، والأَوبَة والاستجابة، والمُحاسَبة والمُراجَعَة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24].
يــــــا مَن عـــدَى ثم اعتدَى ثم اقترَف ثم انتهَــــــى ثم ارعَوَى ثــــم اعترَف
أبشِـــــر بقولِ الله فـــــــــــي آيــــــاتِــــــــــــه: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].