ضرورة التسامح والتعايش بين فئات البشر
مما لا شك فيه أنَّ عالمنا الإنساني اليوم في أشد الحاجة لتسامح الفعال والتعايش الإيجابي بين جميع فئات البشر-على اختلاف أديانهم وأجناسهم- أكثر من أي وقت مضى، نظراً لأن التقارب بين الثقافات والتفاعل بين الحضارات يزداد يوماً بعد يوم بسبب ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية التي أزالت الحواجز الزمانية والمكانية بين الأمم والشعوب، حتى أصبح الجميع يعيشون في قرية كونية صغيرة ممّا يحتِّم على الجميع التفاعل والتعاون من أجل حياة سعيدة آمنة،ومستقبل واعد أفضل وأجمل.
وهذا كلّه لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع إلاَّ بترسيخ مفاهيم التسامح الدينيِّ،وتطبيق مبادئ التعايش بين فئات البشر على تنوعهم واختلافهم،والتعاون بينهم جميعا لخدمة الإنسانيَّة والنهوض بها إلى مراقي التقدم،والعمل على إرساء الأمن والأمان على وجه هذه المعمورة،وإفشاء السَّلام العادل والشامل في مختلف الميادين والمجالات،فالبشرية اليوم-وقد أنهكتها الحروب والصراعات-بأمسِّ الحاجة إلى تسامح فعّال،وتعايش واقعيٍّ لكي تتخلّص من مشاكلها وأزماتها التي تعصف بها بسبب طغيان الغلو والظلم والكراهية بين فئات البشر.
وفي الحقيقة فإنَّ هذا التسامح المنشود،والتعايش المأمول لا يناقض تعاليم الإسلام الحنيف كما يظنُّ بعض من لم يفهم الإسلام على حقيقته السمحة المعتدلة،بل هو ممّا يدعو إليه الإسلام الحنيف ،ويؤكّد عليه في نصوص متكاثرة، ولذا فإنَّ التسامح والتعايش بين فئات البشر وفق المنظور الإسلامي: قاعدة راسخة،وفضيلة أخلاقية، وضرورة بشرية، وسبيل لضبط الاختلافات وإدارتها إدارة صحيحة هادفة، والإسلام-كما هو مُقرَّر- دين عالميٌّ يتجه برسالته وتعاليمه ومبادئه إلى البشرية كلها، تلك الرسالة الجليلة والتعاليم السمحة التي تأمر بالعدل والسماحة، وتنهى عن الظلم والعنف وتُرسي دعائم السلام في الأرض، وتدعو إلى التعايش الإيجابي بين البشر جميعاً في جوٍّ من الإخاء الإنسانيّ والتسامح بين كل الناس بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم،وأوطانهم.
فالجميع ينحدرون من (نفس واحدة)، كما جاء في القرآن الكريم:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾.
كما أن الإسلام الحنيف يعترف بوجود الآخر المخالف فرداً كان أو جماعة، ويعترف بخصوصيّة ما لهذا الآخر من وجهة نظر ذاتية في الاعتقاد والتصور والممارسة ممّا تخالف ما يدعو إليه الإسلام الحنيف شكلاً ومضموناً، ويكفينا-في هذا المقام- أن نعلم بأنَّ القرآن الكريم قد سمّى الإعتقادات المخالفة والمناقضة له ديناً على الرغم من وضوح بطلانها،وصراحة مناقضتها لتعاليمه جملة وتفصيلا،وعلى الرغم من ذلك سمّاها(دينا) لا لشيء إلاّ لأنَّ معتنقيها يعتبرونها دينا يدنون بها ،ويؤمنون بها.
والواقع أن الإنسان العاقل المنصف إذا نظر إلى تلك المبادئ الإسلاميّة المتعلقة بتقرير مسألة حرية التديّن،والتوكيد عليها التي صرَّح بها القرآن الكريم بكل وضوح وصراحة حيث قال الله تعالىلا إكراه في الدين)، لا يسعه-بعد ذلك- إلاّ الاعتراف بأنها فعلاً مبادئ التسامح الديني في أعمق معانيه، وأروع صوره، وأعظم قِيمه.
ومن الضروري أن نعرف في هذا المقام الأصول الشرعية والقواعد الفكرية والمعرفية لمفهوم التسامح الديني في الإسلام الحنيف لكي نتعرف على مبلغ ترسيخ الإسلام للتسامح واهتمامه بترجمته على أرض الواقع ليعمَّ السلام والأمن بين فئات البشر جميعا.
فمن هذه الأصول والقواعد الفكرية مايلي:
أولا- يعترف الإسلام الحنيف في كل أنظمته البديعة وتشريعاته الحكيمة، بالحقوق الشخصية لكل فرد من أفراد المجتمع الإنسانيّ، ولا يجيز أي ممارسة تفضي إلى انتهاك هذه الحقوق والخصوصيات، ولا ريب أنه يترتب -على ذلك -على الصعيد الواقعي الكثير من نقاط الاختلاف بين البشر، ولكن هذا الاختلاف والتنوع لا يؤسس للقطيعة والجفاء والتباعد كما قد يظنُّ بعض أتباع الأديان ممّن لم يفهم روح تلك الأديان المختلفة، وإنما يؤسس للمداراة والتسامح مع(الآخر) المختلف.
ثانيا- علينا أن نعلم بأنَّ المنظومة البديعة (الأخلاقية والسلوكية)، التي شرعها الدين الإسلامي- من مِثل العدل، الرفق، والإيثار، والعفو، والإحسان والمداراة، والقول الحسن، والألفة والأمانة،وإغاثة الملهوف،ورعاية المريض،وسدّ خلّة الفقير،ونصرة المظلوم- إلى غير ذلك من الأخلاق الحميدة التي جاء بها الإسلام وحثَّ المؤمنين على الالتزام بها وجعلها سمة شخصيتهم الخاصة والعامة، كلها تؤكد مبدأ التسامح مع الآخر،وترسخ مفهومه،وكذا تقتضي الالتزام بمضمونه الواسع والشامل،والذي يصنع من المختلفين تنوعا ثريا غنيا يُثري المجتمعات الإنسانية،ويعمل على نموها وازدهارها،ويحقق أمنها وأمانها،ويرسي مظاهر التعايش الإيجابي،والتعاون على إيجاد وترسيخ كل فضيلة وخير،وإزالة كل شرٍّ وعداوة.
ومن خلال هذه المنظومة السلوكية والأخلاقية، نجد بأنَّ المطلوب شرعا من الإنسان المسلم دائما وأبداً وفي كل أحواله وأوضاعه، أن يلتزم بمبادئ التسامح ومقتضياته، ومتطلبات العدالة،ومظاهر الإحسان إلى الآخرين،والقسط بهم ومعهم
فالتسامح كسلوك وموقف ليس مِنَّة أو دليل ضعف وميوعة في الالتزام بالقيم، بل هو من مقتضيات القيم ومتطلبات الالتزام بالمبادئ، فالغلظة والشدة والعنف في العلاقات الاجتماعية والإنسانية، هي المناقضة للقيم، وهي المضادة لطبيعة متطلبات الالتزام وهي دليل ضعف لا قوة،ولذا لا غرابة بعد ذلك أنَّ نجد الإسلام الحنيف يرسخ التسامح والتعايش مع جميع البشر في كلِّ مبادئه الجليلة وأحكامه البديعة.
ذلك أنَّ الأصل في العلاقات الاجتماعية والإنسانية، أن تكون مبنيّة على المحبة والمودة،وقائمة على العدل والتآلف، حتى ولو تباينت الأفكار والمواقف، واختلفت الأنظار والإتجاهات، بل إن هذا التباين،وذاك الإختلاف هو الذي يؤكد ضرورة الالتزام بهذه القيم السمحة المتسامحة، والمبادئ العظيمة الجليلة.
فوحدة البشر الاجتماعية في كلّ زمان ومكان بحاجة إلى غرس قيم ومتطلبات التسامح في فضائنا الاجتماعي والثقافي والسياسي.
ومن هنا لا يجوز أن يُنظر إلى اختلاف الجماعات البشرية في أعراقها وألوانها ومعتقداتها ولغاتها على أنها تمثل حائلاً يعوق التقارب والتسامح،أويمنع من التعايش الإيجابي بين الشعوب، فقد خلق الله الناس مختلفِين-وهكذا اقتضت حكمته ومشيئته- كما يقرِّر ذلك القرآن الكريم-لَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ).
ولكنَّ هذا الإختلاف بين الناس في أجناسهم ولغاتهم وعقائدهم وأديانهم لا ينبغي أن يكون منطلقاً أو مسوِّغا للنـزاع والشقاق بين الأمم والشعوب، بل الأحرى أن يكون هذا الاختلاف والتنوع دافعاً إلى التعارف والتعاون والتآلف بين الناس من أجل تحقيق ما يصْبون إليه من تبادل للمنافع وتعاون على تحصيل المعايش وإثراء للحياة والنهوض بها وخدمة الإنسانية وتحقيق التنمية الشاملة.
ومن هنا يقرِّر القرآن الكريم بكل وضوح الهدف السامي من اختلاف الناس وتنوعهم: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾.
والتعارف هذا هو الخطوة الأولى نحو التآلف والتعاون في جميع المجالات والميادين الإجتماعية والإقتصادية والفكرية والسياسية والثقافية.
تعارف محكم منضبط في كلّ النواحي والمجالات يُنهي الصراعات،ويُزيل التنافر والعداوات التي تقضي على الحضارات وتدمِّر المدن والثقافات.
وهاهو الإسلام الحنيف يُرسِّخ لنا التسامح مع الآخر،والتعايش معه حيث يبيّن لنا كيفية معاملة المسلمين للآخرين الذين يخالفونهم في دينهم-على اختلافهم وتنوعهم- بقوله جل َّوعلا: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ،إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
ففي هاتين الآيتين الكريمتين يحث الله تعالى المسلمين على معاملة من يخالفونهم في دينهم بالعدل، ولم يكتفِ به بل تجاوز ذلك إلى التوصية بالبر بهم، والبر-كما هو مقرر في موضعه- فوق العدل، فهو لا يأتي إلا من العطف والحنو والرحمة وإرادة الخيربالآخر والنصح له، واستثنى الله سبحانه من ذلك الذين اضطهدوا المسلمين وقاتلوهم واعتدوا عليهم.
ومن التسامح في الإسلام: إباحته طعام أهل الكتاب وتحليله لذبائحهم وإباحته للمسلم أن يتزوج من نسائهم فقال تبارك وتعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ) [المائدة : 5]
ومن التسامح أيضاً تسميتهم بأهل الذمة. فلفظ الذمة معناه : ذمة الله وعهده ورعايته وقد ورد في الحديث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام:
(ألا من ظلم معاهدا،أوانتقصه،أوكلَّفه فوق طاقته،أوأخذ منه شيئا بغير طيب نفس ،فأنا حجيجه يوم القيامة).
والخلاصة في هذا المقام أنَّ التسامح والتعايش بين فئات البشر على اختلافهم وتنوعهم ضرورة من ضرورات الحياة التي تستجيب للدواعي الملِّحة لقاعدة جلب المنافع ودرء المفاسد، كما وإنه تلبية حسية لنداء الفطرة الإنسانية للعيش الكريم والأمن والأمان والسلام والطمأنينة لكي تنصرف الأمم لبنائها الحضاري والإنساني.
ولا شكَّ أنَّ الإسلام هو السبَّاق والرائد في هذا المضمار ممّا يزيد من مسؤولية المسلمين تجاه البشرية في ترسيخ مبادئ التسامح وتطبيقه على أرض الواقع لكي تكون الإنسانية أحسن وأفضل وأرشد.
والحمد لله رب العالمين.