على تيار الوسط الصمود في مواجهة الشعبوية
من السهل الغضب، لكن الصعب صياغة استراتيجية. ومع أن الغضب يوفر الحافز للإنسان للعمل، فإن الاستراتيجية وحدها قادرة على تحقيق النصر.
وحتى هذه اللحظة، اقتصرت ردود الأفعال حيال الشعبوية اليمينية التي تجتاح الغرب على الاعتراض والتعبير عن الصدمة. إلا أنه حال وجود رغبة حقيقية في المقاومة، فإن هذا يتطلب إجراء تحليل متأن لما يجري ولماذا وما يمكن فعله.
إننا نشهد حاليًا إعادة صياغة للمشهد السياسي - وهي الظاهرة ذاتها سواء داخل الولايات المتحدة أو أوروبا. وعند النظر إلى الانتخابات المقبلة في فرنسا وألمانيا، نجد أن مستقبل أوروبا، وربما الديمقراطية الليبرالية الأوروبية تقفان على المحك.
ويبدو التيار الشعبوي اليميني على كلا جانبي الأطلسي عاقد العزم على نسف السياسات المحافظة التقليدية وترسيخ بدلاً عنها تحالف جديد يتألف من مؤيدين داخل مجتمعات الطبقة العاملة لديهم ميول يسارية ويكنون كراهية عميقة لليبرالية. وثمة اعتقاد في أوساط الطبقة الوسطى على جانبي الأطلسي بأن الثقافة التقليدية يتهددها الخطر بسبب الهجرة وسياسات ما يعرف بـ«الصواب السياسي». ويؤمن الجانبان بالدولة القومية كثقل معارض للتحالفات الدولية، ويشعران بأن ما يطلق عليه «النخبة» خذلتهما، وأن الحل يكمن في وجود شخصية استبدادية قوية بما يكفي لئلا تعبأ بنظرة المؤسسة السياسية نحوها.
والملاحظ أن ثمة ثورة قائمة، جزء منها اقتصادي، لكنها تبقى ثقافية بصورة أساسية. ويختلف هذا التحالف عن القديم الذي كان قائمًا بين ريغان وثاتشر، وإن كانت تظل بينهما بعض التشابهات. عند النظر إلى ثمانينات القرن العشرين، نجد أن الناخبين من أبناء الطبقة العاملة انتقلوا نحو اليمين لشعورهم بأن اليسار لا يلبي تطلعاتهم نحو تطوير الذات. بطبيعة الحال، كانت تلك قضية ثقافية، لكنها بالأساس تحمل طابعًا ثقافيًا. ولم تشعر هذه الطبقة بالخوف بقدر ما شعرت أن ثمة عوائق تعترض طريقها وتحول دون تقدمها.
أما اليوم، فالوضع مختلف، ذلك أن الشعبوية الحالية لا تفكر على نحو منطقي وإنما تكتفي بإطلاق الصراخ والزئير. وأحياناً ما تبدو وكأنها تحمل صبغة فوضوية. ويبدي أنصارها ترحيبهم بالغضب العارم الذي يثيره قادتهم، والذي يؤدي لاستقطاب الرأي العام ويعزز شعورهم بالانتماء. وعليه نجد أنه حتى عندما يشاركون في الحكومة، يتصرفون وكأنهم مستثنون منها.
في تلك الأثناء، يشعر المحافظون التقليديون بالغرب داخل نطاقهم، ويبدون غير واثقين حيال ما إذا كان عليهم مسايرة النظام الجديد، على أساس أنه سريعًا ما سيتلاشى أم أن عليهم تقبل فكرة أن هذه ثورة ترمي إلى قلب السلطة ومحاربتها.
وتكمن أسباب هذه الحركة في حجم ونطاق وسرعة التغيير. ونعاين هذه الحركة اقتصاديًا في وقت تتلاشى فيه الوظائف وتتمزق المجتمعات، وثقافيًا مع دفع العولمة لمختلف أرجاء العالم نحو مزيد من التقارب، في وقت تتماهى الحدود القديمة للأمة والعرق والثقافة.
وتتسبب الديناميكيات ذاتها في انقسام اليسار، والذي تحالف جزء منه مع اليمين في الثورة ضد العولمة، لكن مع صبّ جامّ الغضب على الشركات، بدلاً عن المهاجرين، باعتبارها الشر الأعظم. كما يتفق هذا الجزء من الشعبويين اليمينيين بخصوص النخبة، لكن بالنسبة لليسار فإن الصفوة هم الأثرياء، بينما الصفوة بالنسبة لليمين هم الليبراليون.
في الواقع، هذه الشعبوية اليسارية خطأ عميق، وليس أمامها أدنى فرصة للوصول لمستوى جاذبية شعبوية اليمين، والأخطر من ذلك أنها تضفي شرعية على بعض الحجج التي يدفع بها اليمين. ومن شأن ذلك خلق حالة من الشك تؤثر بالسلب على مستوى دعم الجوانب الأكثر تقدمية من برنامج اليسار.
والملاحظ أن هذا الميل اليساري انتفع كثيرًا من حالة الشلل التي يبدو عليها تيار الوسط. حقيقة الأمر أن الأحزاب والسياسيين من تيار الوسط تحولوا إلى مديرين للوضع القائم في وقت يرغب فيه الناس في التغيير. وعليه، أصبح الوسط مهمشًا، بل ومحتقرًا - بكلا معسكريه يمين الوسط ويسار الوسط.
والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا: هل ستمثل هذه مرحلة مؤقتة، ربما على صلة بتداعيات الأزمة المالية عام 2008 وهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وسرعان ما سيستعيد المشهد السياسي وضعه الطبيعي، أم أن ثمة عصراً سياسياً جديداً قد بزغ؟
الملاحظ أن الهياكل الحزبية على جانبي الأطلسي تضرب جذورها في الثورة الصناعية وما أثارته من نقاشات حول الاشتراكية والرأسمالية والسوق والدولة. واستمرت هذه الأحزاب بفضل قوة ومتانة جذورها. إلا أنه الآن ظهرت حدود فاصلة جديدة بخلاف مجرد التقسيم التقليدي بين يمين ويسار.
أثناء فترة شبابي المبكر، كان الناس أمثال والدي محافظين - بالمعنيين الاقتصادي والاجتماعي. أما اليوم فنجد أن الكثير من الناخبين لا يتواءمون مع هذا النمط التقليدي القديم، ذلك أنهم قد يكونون محافظين من الناحية الاقتصادية على النحو التقليدي، لكنهم في الوقت ذاته ليبراليون اجتماعيًا. وهناك من اعتادوا التصويت لليسار، لكنهم غير ليبراليين ثقافيًا، ولا يمانعون الآن التصويت لأحزاب الأثرياء.
اليوم، أصبح التمييز الأكثر أهمية في الغالب عن اليمين واليسار، المنفتح والمنغلق. وينظر المنفتح إلى العولمة باعتبارها فرصة، لكنها تحمل معها تحديات ينبغي العمل على تخفيف آثارها. في المقابل، يرى المنغلق العالم الخارجي مصدرَ تهديدٍ. والواضح أن هذا التمييز يتجاوز الحدود الحزبية، وبالتالي ليست له قاعدة منظمة ولا قناة طبيعية للتمثيل في السياسات الانتخابية.
الملاحظ أن المشهد السياسي داخل غالبية الدول الأوروبية، وبالتأكيد الولايات المتحدة، لا يزال خاضعاً لهيمنة السياسات التقليدية لليمين واليسار. إلا أنه في ظل ضغوط من الشعبوية الراديكالية، بدأ في التحول نحو المواقف المتطرفة، مثلما نرى في حزب العمال البريطاني والاشتراكيين الفرنسيين.
وعليه، فإن هذا يترك مساحة كبيرة في الوسط. وبالنسبة للجناح التقدمي في السياسة، تكمن الاستراتيجية الصائبة في طرح حجة لبناء تحالف جديد من داخل الوسط. ومن أجل القيام بذلك، يتعين على التقدميين الاعتراف بالمخاوف الثقافية الصادقة التي يشعر بها البعض حيال الهجرة وخطر الإسلام الراديكالي.
إن تيار الوسط بحاجة إلى صياغة أجندة جديدة تؤكد للناس أنهم سيحظون بدعم لاجتياز التغيير الجاري حولهم. وفي خضم كل هذا، ينبغي أن يكون ثمة تحالف بين من يقودون الثورة التكنولوجية، في وادي السيليكون وغيره، والمسؤولين عن السياسات العامة داخل الحكومة. إلا أنه اللافت أن هناك فجوة بين الجانبين في الوقت الراهن. ورغم أنه من الحتمي أن يبقى هناك تأثير سلبي على الوظائف بسبب الذكاء الاصطناعي، فإن هناك أيضًا فرصاً هائلة لتغيير حياة الناس نحو الأفضل بفضل التكنولوجيا.
وينبغي أن تركز أي أجندة جديدة على هذه الفرص لتحقيق تغيير راديكالي في أسلوب خدمة الحكومة للناس. ويجب أن تتضمن الأجندة كيفية تعليمنا وتأهيلنا وإعدادنا لقوة العمل للمستقبل، وكيفية إصلاح منظومتي الضرائب والرعاية الصحية للتشجيع على المزيد من التوزيع العادل للثروة، وكيفية إعادة بناء البنى التحتية في بلداننا، والاستثمار في المجتمعات الأكثر تضررًا من التجارة والتكنولوجيا.
نقلاً عن الشرق الأوسط اللندنية